لم أشهد أي معركة نفسية بين أصدقائي المقربين إلا بعد دخولي الجامعة، واختلاطي بمجموعة أوسع ممن كانوا في المدرسة او الحارة.
كانت معاركهم سخيفة جداً، أسخف مما تتصورون، قد يتخاصم رفقاء الغرفة الواحدة بسبب كلمة قصدها الآخر أو لم يقصدها، أو بسبب ضحكة أو ابتسامة فُهمت بالخطأ، أو حتى حوار لم يرق لأحدهما.
تبدأ المهاترات عندما يكابر أحدهما على الآخر، ويتهم زميله السابق بالغرور والكبر والعُجب، وغالباً ما كنت ضحيةً لمعاركهم، فلم انحاز لأي طرف، حتى لا أخسر الآخر، وهذا الموقف كان يُحملني ضغطاً نفسياً كبيراً، فعلي أن أسمع للنقيضين، فكل منهما يكيل للآخر ويحتقره، أكون عند احدهما فيدخل الخصم فأقوم للسلام والترحيب، بينما يظل كما هو وكأنه لم يرى أحداً، وكذلك حال الداخل وكأنه لم يرى غيري، ولا أخفيكم سراً فقد كنت أشفق عليهما، وأعلم علم اليقين بوجود خلل نفسي بينهما او عندهما فالأمر سيان، وألوم نفسي الأمارة بالسوء، والتي لم تأمرني بأن أناصحهما، فكان دوري دائماً التهدئة ولا شيء غير ذلك.
كانا في أمس الحاجة إلي صدمة قوية من صديق مقرب، ويعلم الله أني لم أدرك ذلك إلا بعد تجارب السنين والأعوام، وأقصد بالصدمة تلك التي تكون صريحة واضحة للطرفين، فقد أصابهما الغرور والعزة بالنفس، وكانا لا يريان إلا عيوب الآخر، أما عيوب النفس فكأنها خُبئت في الخزائن أو تحت الأسرة، فكان دوري المفترض هو اخراجها وكشف الوهم الذي يعيشانه، فلو تخلقا بروح الأدب والاحترام فضلاً عن أخلاق الإسلام المعروفة، لبادر أحدهما بالسلام على الأقل، ولتغاضا عن كثير من تلك التفاهات التي وللأسف كنت المستمع الدائم لها، منها أن يقول لي أحدهما: “انه يتكبر علي وينظر إلي بنظرة استعلاء، انه يحتقرني، وساحتقره، فالعين بالعين والبادئ أظلم، والتكبر على المتكبر تواضع”.
اتسعت دائرة خصوماتهما، لتشمل زملاء آخرين، ولأسبابٍ أتفه من سابقاتها، فأصبحتُ في صراع نفسي صعب، فأنا أعيش معهما في نفس السكن، وأتعامل مع من يتعاملان، تزداد صداقاتي وتزداد خصوماتهما، ظننت لوهلة بأن خلل ما في شخصيتي، فهل توددي للجميع ذلٌ وهوان؟!، وهل تسامحي مع تصرفات الآخرين وحسن الظن بهم كان ضعفاً؟!!، في تلك الفترة آثرت الابتعاد عن السكن الجامعي، فتعمدتُ العودة والكل نيام، حتى لا أسمع تخيلاتهم وحكاياتهم التي تشبه قصص الأطفال.
في إحدى المرات وفي تلك الفترة، كنت في المحطة للتزود بالوقود، واذا بسيارةٍ فارهةٍ تقف بجانبي ولنفس الغرض، وما أن أنزل السائق النافذة، حتى هز المكان صوتٌ صاخب، صادر من تلك السيارة، طلبت منه تخفيض الصوت، لوح لي بأنه ليس من شأنك، غضبتُ ولكني تماسكت، ومضيت في طريقي، وإذا به يلاحقني، وينعطف باتجاهي، ثم ينطلق مسرعاً.
لم أتمالك نفسي هذه المرة، انطلقت خلفه، لسببين: أولهما تفريغ ما بداخلي من غيظ على تصرفاته، وثانيهما تلقينه درساً في الأخلاق واحترام الآخرين، “ليش الغرور؟!”، أهو لقلة التربية؟!، أم لكثرة المال؟!، ولما هذه النظرة الدونية لمن هم بالشارع؟!، طاردته من شارع إلى شارع، لم يستجب لتلويحاتي له بالتوقف.
دخل منطقة معارض السيارات المستعملة، وإذا به يدخل أحد المعارض، ويُفتح له الباب، أوقفت السيارة خارجاً، دخلت، وإذا برجل أنيق، يرحب بي بحرارة ويعرفني بنفسه، فهو صاحب المعرض، سألته عن السيارة التي دخلت للتو، قال:نعم هي للبيع، قلت:لا، بل أريد الذي كان يقودها، قال: انه مُغسل السيارات أخذها لتعبئة الوقود، أذهلني ما سمعته، مُغسل السيارات، يفعل بي ذلك؟!! ناداه ، حضر، ارتعب حين رآني، فهو مخطئ وخطأه قد يكلفه وظيفته، لم أشأ أن أكون سبباً في قطع رزقه، لذا استأذنت صاحب المعرض، وأخذت المُغسل جانباً مستفسراً عن سر غروره وتكبره، قال:لم أملك سيارةً في حياتي، وعندما عملت هنا، قدت أفخم السيارات، والتي لا يملكها إلا الأغنياء، فعندما أقود أي واحدةٍ أتقمص دور الشاب الغني والمرفه، وبالتالي انظر الى منهم بالشارع نظرة دونية، ولمجرد وصولي الى المعرض أعود إلى حقيقتي مُغسل السيارات ومُنظفها.
رجعتُ وأنا في حيرةٍ واستغراب، فقد خُدعت بالسيارة التي كان يقودها، ظننته من الأغنياء المغترين، فإذا به من أفقر الخلق، ولكن متنفسه الوحيد تقمص دور الغني، وكذلك الحال مع كثير ممن نخالطهم في حياتنا اليومية، تكبرهم على الآخرين سببه نقص في حاجاتهم النفسية، فكلُ متكبرٍ مغرورٍ يحتاج لعلاج نفسي مُطول، يُمكنه من سد ثغرات حاجاته المكبوتة، فلو لم أعرف حقيقة المُغسل، لظننته من الأغنياء المغترين إلى يوم الدين.
وبعد هذا الموقف، أيقنت بأن الذي يحدث بين أصدقاء السكن ما هو إلا لحاجات نفسية وسوء ظن متبادل، فتحول مع الوقت إلى غرور وتكبر.
كثيراً ما كنت أصادف أحدهما في مطعم السكن، وهذا من سوء طالعي، فاضطر للجلوس معه، ويبدأ بتصنيف الداخلين والجالسين، فأغلبهم إن لم يكن الكل في نظره مغرورون ومتكبرون، ولم يعلم المسكين بأنه المغرور الذي صنف الناس على هواه، فأصبح يلبس تلك الصفات التي نعتها وهو لا يدري، ويا ليته التفت لنفسه وعيوبها، فعيوب النفس أولى بالتصنيف والتصحيح، وحسن الظن بالناس مطلب اجتماعي وديني، فكيف لي أن أعيش في محيطهم وأنا أسئ الظن بهم؟!!، وما زاد من حزني وأسفي هو عدم انتباههما للوضع الخطير الذي وصلا إليه، حيث أصبح نصف من يسكن معنا هم خصوم للأول أو للثاني؟!!.
وبعد هذه السنين والأعوام التي عشتها، وما واكبها من تجارب وأحداث، تعلمت الكثير، فكم مات من الأصدقاء والأقارب؟!، وكم مرض من كان يظن بأنه شديد البأس؟!، حتى تمكن منه وأصبح أسيراً لعلل وأسقام العصر، وكم من صاحب ملك انتزع ملكه؟!، وكم من غنيٍ خسر كل ما يملك؟!، فمن نحن حتى نغتر بأنفسنا؟!، ومن أنا؟!، حتى أملك صفة لا تنبغي إلا لرب العباد، ففي الحديث القدسي (يقول الله عز وجل: الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار).
فما أنا إلا مخلوق من تراب، وأعيش على التراب، ومردي إلى تلك الحفرة تحت التراب، وبداخلي مصنع قاذورات ويخرج القاذورات، هذا أنا، وهذا أصلي، فلما التكبر والغرور؟!، ولما العُجب بنفسٍ بتلك الصفات؟!، يقول الشاعر :
لو فكر الانسان فيما في بطونهم
* * * * * * * * ما استشعر الكبر شبان ولا شيب
يا ابن التراب ومأكول التراب غدا
* * * * * * * * أقصــر فإنـك مـأكــول ومشــروب
إنه تلبيس إبليس، فكما تكَّبر سابقاً، وعصى أمر ربه بالسجود، وأصبح من الملعونين، ها هو يزين لنا أفعاله الإبليسية، عندما نُصنف الناس، بحسب اللون او الأصل او الشكل، كما صنف آدم عليه السلام، بأنه مخلوق من الطين وهو من النار.
يُلازمني خوفٌ حين أسمع الحديث الشريف : “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”، يا ويح نفسي ويا ويلها، كم نحتقر من البشر؟!، إما لدنو مستواهم او اختلاف اصلهم او لونهم، انها مثقال من ذرة، أي انها صغيرة جداً، أصغر من النقطة التي قد لا ترى بالعين المجردة، والقصد تصفية القلب نهائياً وبما لا يدع مجالاً للشك من تلك الذرة، بل ومثقالها، ولن نصل لتلك الدرجة من صفاء القلب، حتى نوقن بأننا سواسية غنينا وفقيرنا، عالمنا وجاهلنا، وان اختلفت الأصول والألوان والأنساب، فمن منا استطاع أن يصفي قلبه تماماً؟!!، نعوذ بالله من الكبر والعُجب والغرور.
( ودمتم متواضعين )
سلمت بنآنكـ ورآق لي طرحكـ وإلى الآن أشعر أني. لم. أستوعب. معنى الغرور لأن. لآ. شيء يستحق. أن نغتر به
شكراً …
أوافقكِ الرأي لا شئ يستحق أن نغتر بسببه … فكل ما نملك مصيره إلى الزوال يوماً … العمر والجمال والمال وحتى الذكاء …
Reblogged this on بعضٌ من عباراتي.
سعدت بقراءة عباراتكِ …
طرح موفق أخي الكريم، سلمت يداك..
للأسف هذا الصنف من البشر يعتقد أن وجوده في أي محيط
لا يعطيه المكانه والوزن الذي يستحقه…
خواء فكري ونفسي واضح،،
وتعامل هذه النوعية من البشر يجبرنا على السلبية في التعامل معه.. فلابد من إذابة تلك الحواجز ، وإشعاره بحقيقة ذاته..
السلام عليكم
اخي اسحاق اعترف انني قرات موضوعك المطول سطر.. سطر…..
ابداع تسلم على سماحك لنا بقراءته ….
المتكبر كمن هو في قمة الجبل ينظر للناس على انهم صغار وهم يرونه كذلك ….
فخورة لأني قرأت لك وسيزيدني فخرا وشرفً أن أقرأ لك باستمرار. يسلم قلمك
الغرور هو بداية النهاية وغالبا ما يؤدي بنا هذا الدرب إلى مرض جنون العظمه الذي غالبا مآيودي بـ الناس إلى الهاويه.
أنا مع المثل إللي يقول مامحبة إلا من بعد عداوة .. لأن أنا طبعي حاد شوي وما اقدر أتقبل أي حد بسرعه خاصه لو كان فيها مواجهه يعني مب إنترنت او تلفون .
و بالنسبه لي أنا وبكل أسف شكلي الخارجي يوحي بعكس تماما شكلي الداخلي .. ف من يراني للوهله الاولى يقول مغروره متكبره دلوعه ولكن من يتعرف علي لـ 5 دقائق بس يقول اني عسل (ما ابي امدح عمري زياده :،) ).
وعن موضوع الأصدقآء إيه والله أنا بعد نفس الشي ما اقدر اتحمل هالحال خاصه يوم يكون اعز إثنين متزاعلين فأقول لهم إذا ماتبوني احل الموضوع ما برمس حد منكم وافتك من الصدعه ومن النفاق إللي أضطر اني أسويه عسب أرضي الطرفين.
أما بالنسبه لـ الغرور فأنا أعتبره مرض من أمراض القلب المعنوية وليست الجسديه فهو مزمن لانه صعب الواحد يقدر يفرق بينه وبين الثقه فـ يتم متمسك بأرآءه وصعب النقاش معاه بل يكاد يكون النقاش معه عقيم فغالبا ما يخلط الناس بين الثقه و الغرور فبينهما شعره رفيعه تكاد لآ تُرى و المتعارف عليه أن نهاية الغرور هي السقوط الشنيع والندم و الانكسار.
إسحآق أعجز عن وصف مقالآتِك .. هالموضوع قريته من قبل مرتين واليوم تفيجت أرد عليه