مثاليون بالفطرة


من الفطرة تعلق الطفل بشخصيةِ الوالدين أو المعلم، أو إحدى شخصيات التلفاز البطولية أو أحد لاعبي الكرة المشهورين، يبدأ بالإعجاب والانبهار ويرسم صور وردية مثالية لها، ويبالغ لدرجة يهب فيها من يُعجب به نرجسيةً مطلقة.

ونتيجة لذلك، فقدوته في الحياة هو أحد هؤلاء، فهم المثل الأعلى، وهم الصورة الذهنية المثالية لما سيكون عليه عندما يكبر، ولأنها مرحلة الطفولة البريئة، فقد يحمل تصوره الكثير من حسن الظن، والعديد من قصص البطولة الخيالية، فتترسخ في ذهنه تلك الصورة النقية، الخالية من العيوب والشوائب، والفائضة عن إمكانيات البشر الطبيعية.

والحقيقة أنهم عكس ما يتوقعه الطفل ويتصوره، فهم بشر يخطئون ويصيبون، وقد يكونون للخطأ أقرب، وفي أحسن حالات المثالية يكونون أفضل من أقرانهم بصفات معينة، لا تصل إلى درجة العصمة والكمال التي يتصورها الطفل.

وهذا سبب صراع المراهق مع محيطه، عندما يسعى جاهداً لإثبات مثالية شخص ما، فلا يصدق الوقائع، ولا يرى الحقائق، إلا تلك الصور الخيالية الطاغية على نظرته وتصنيفه له، فقد حَفَرَ مثاليته في ذهنه منذ الطفولة، أو حفره المجتمع من خلال التعظيم المبالغ، والترسيخ الممنهج لشخصية بعينها، على أنها المثل الأعلى والأوحد.

وتلك النظرة المبالغة تعتبر بمثابة قنبلة موقوتة، قد تنسف كل مباديء وقيم تلك الشخصية في لحظة ظهور الحقيقة، فالمُعجب انبهر بالشخصية ونرجسيتها قبل النظر إلى القيم والأخلاق والمباديء التي يبني عليها أفكارها، تماماً كالذي ينبهر ببالونة كبيرة عملاقة، فشكلها الخارجي يوحي بالضخامة ولكن حقيقتها أنها فارغة من الداخل إلا من الهواء.

من الجيد أن يتخذ أبناؤنا قدواتٍ لهم، على أن نغرس فيهم حقيقة هؤلاء، فلا معصوم إلا الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وما هم إلا بشر مثلنا، لا يخلون من الزلات والأخطاء، ومن الجيد أيضاً توعيتهم بالقيم والمبادئ التي يحملها من أعتبروا مثاليين قبل مناقشتهم في صفات الشخصية الظاهرية.

صفة التعظيم والتطبيل لازمت المجتمع العربي قديماً وحديثا، فكم من ظالمٍ أُعتبر من الأبطال، وكم من سفاحٍ شُبه بالخلفاء والصحابة، وكم من عالمٍ أُعتبر علمه مُطلق الحقيقة، فلا يجوز الرد ولا يُسمح بأخذ العلم من غيره، حتى أصبح مجتمعاً “ببغاوياً” يردد ما يقال له، لذا افتقد عمق التفكير وتحليل المواقف، وظل في حالة ترقبٍ دائمة للحل المثالي من الشخص المثالي.

وأعتقد أن حالة الاتكالية الفكرية سببها دهاء النخبة وثقافة المثالية، تلك الثقافة التي بسببها أوجدنا طبقيات زائفة، نصبنا على كل منها شخصيات اعتبرناهم قمماً فوقنا، وارتضينا القاع تحتهم.

(ولازال الحوار مستمراً من خلال تعليقاتكم)

12 replies to “مثاليون بالفطرة

  1. كلام جميل استاذ اسحاق واشكرك جداً عليه وفي نظري ان الوالدين لهم دور في اعطاء السلبيات والإيجابيات عن الشخصية التي نالت قدر من الإعجاب عند أبنائهم

  2. نعم
    لقد تعلق أبناؤنا بشخصيات كثيرة زائفة لأسباب عدة منها قلة اهتمام الآباء بالموضوع و اعتبار تعلق أبنائهم بمثل هذه الاشخاص لفترات مؤقتة و لكن السبب الأقوى في رأيي الإعلام الذي يركز عليها مستعينا كما ذكرت أستاذنا الكريم بدهاء المثقفين
    وعلينا جميعا أن ننتبه لتلك الظاهرة التي خربت الفطرة و أدخلت عليها مواداً مغرية لا تصلح لصحة أبنائنا و مجتمعنا

  3. كالعاده مقاله رائعه تستحق القراءة وانا اقرأها اتخيل ابني ذو الست سنوات وهو يتحدث عن مغامرات اصدقائه بن تن وبوررينجر وغيرهم ويتخيل نفسه واحد منهم ويتمنى في المستقبل ان يصبح قوي مثلهم
    شكراً مره اخرى والى الامام

  4. المقال رائع وواقعي جدا وأسلوبك راق في الطرح استاذ اسحاق~ القدوة الحسنة كلمات بسيطة مفقودة نحتاج لفهمها~ وسائل التواصل الحديثة عبر الهواتف الذكية والأجهزة الالكترونية بالاضافة الى الوسائل التقليدية من تلفزيون واذاعة ساعدوا وللأسف في نشر الثقافة السلبية الى جانب الايجابية والتي تحدثت عنها وأشرت لها~ واصبح  “التقليد الأعمى ” جزء من حياتنا~ نحتاج للعديد من الحملات التوعوية في هذا الجانب بالتعاون مع مختلف الجهات الحكومية والخاصة لتثقيف لأهالي اولا  والأبناء ثانيا بالفروقات بين ان تعجب بشخص وتقلده وان تتخذ لك قدوة تتبع خطاها لتحقيق الانجاز وان تصبح انت بحد ذاتك مثال للآخرين ~  شكرًا لك وفقك الله وسدد خطاك اخي

  5. دائما مبدع في مقالاتك وفي اختيار مواضيع رائعة وهادفة…وقد شرحت المثالية بطريقة بسيطة تساعد الاباء في توجيه أبنائهم وتوعيتهم بالشخص الذي يستحق أن يكون قدوة ومثالا لهم..وفقك الله أستاذنا الكريم وجازاك الله خيرا….

  6. فعلا أستاذي فدور الأهل كبير ف التنشاة وتوجيه الطفل وتعليمه من الصغر ، وللاسف مجتمعنا يجهل كيفية التعامل معه ويكتفي بتلبية حاجاته الجسديه .. ورفض اغلب الأسر ( أو النطاق الذي أعيش فيه دون مبالغه ) إدخال المربي الذي يفقه ف مجال تخصصه واعلم منا ، أو حتى مشورته معتقد أن ثقافته واسلوب نمط أجداده يكفي . العالم تغير وجيلنا مختلف عن ماضيه ومتفتح بشكل كبير ! لا أعلم أن كنت خرجت عن محور الموضوع ، ولكن أعجبني كلامك واتمنى من خلال مقالاتك أن تصل الرسالة لهم فمازلت تلميذه أتطلع لجديدك وأبداعاتك .. ساكتفي بمن حمل الرسالة (محمد صل الله عليه وسلم ) بأن يقتدوا به .

  7. مقال رائع استاذ اسحاق
    وتوجيه الاطفال يبدأ من سن صغيره جداً ويعتقد بعض الآباء انه من الحريه ترك الابن بدون توجيه وهنا تكمن المشكله

  8. غالبا ما يعتقد الشخص وخاصة الاطفال بالمثالية ، ومثل ما قلت لا ينظر إلى الحقائق وغيرها ،، وهي ليست فقط في مجتمعنا فقط بل في معظم المجتمعات ،، ولكن ما يتغير طريقة توجيههم إلى الطريق السليم .

    عندما لا ينظر الانسان إلى حقائق المثالي بالنسبة له هذا يعني إنه يريد أن يثبت لنفسه ولغيره إنه لم يخطأ باتخاذه القدوة ، وأيضا طبيعة الانسان أن يتخذ أحداً قدوة ،، إنها فقط طبيعة انسانية ، وعلينا بالسلوك الصحيح .

    إنه فقط رأي واعتقاد ،، وأشكرك أستاذ إسحاق على مدونتك الرائعة ،، أتمنى لك المزيد من التقدم والنجاح ,,

  9. كلام رائع وجميل جداً ياأخ إسحاق ولا غبار على كلامك .. فأحد ابنائي الذكور دائماً اخذ معه اسلوب الأخذ والرد في الكلام والمعاملة .. خاصة في سن المراهقه القدوه هم اصدقاؤهم فقط ومايفعلونه صحيح والباقي غلط وعندهم ان الوالدين لايفقهون شيئاَ ….. طرح رائع …

    تعليق بواسطة nawal alayyar

  10. جزاك الله خير على الموضوع .
    صحيح ان الاسره هي الاساس في بناء الطفل وان كان يتاثر بالمحيط الخارجي لكن بمتابعة الاسره ستحافظ على جوهر هذا الطفل
    سؤال حائر؟؟ في غالب الاحيان يحبون شخصيه لها مكانتها الدينيه والاجتماعيه والاخلاق الحسنه لكن لا يقتدون بها و ينجذبون وراء شخصيات زائفه كما تفضلت ما السبب في رأيك؟؟
    واشكرك على الموضوع الاساسي لتنشئة الطفل .

  11. استاذي. دائم مبدع بمعنى الكلمه باطروحاتك ومواضعيك المفيده.استمتع دائما بالقراءه لك وبااسلوبك الجميل الرائع. ….وفعلا التربيه من الصغروعلى كل اب وام متابعة ابنائهم ومايشاهدونه والحرص ثم الحرص على انتقاء االمفيد لهم. . ودمتم .

  12. اتقنت وابدعت في تقريب ونقل فكر التعلق بالفطرة فعندما يعجب الطفل او بالاصح نحن في طفولتنا وايضاً في سن البلوغ نعجب بشخص من خلال العمل الذي يقدمه لنا او يقدمه لغيرنا فمثلاً نعجب بعالم من العلاماء وأساس أعجابنا له هو العلم الذي أكتسبة او طريقة شرح او نقل او خطابه مثلاً وايضاً الطبيب من خلال نجاحه او مكانته في مجتمعنا لا نتطرق الي خبايا حياته و خصوصياته فنحن مجتمع ينظر الى ظواهر الامور والكمال لله عز وجل ولكن التربية السليمه والصحيحة هي التي تنمي فكرة ان القدوة هو رسول الله عليه افضل الصلاة والسلام فهو خير من يقتداء به …

    ابو سعد الحريصي

أتشرف بتعليقاتكم ومقترحاتكم

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه:
close-alt close collapse comment ellipsis expand gallery heart lock menu next pinned previous reply search share star