فيما الحياة مكتظة برحلات القادمين والمغادرين، تظل رحلات الوداع هي العالقة دون الأخريات، كونها لحظات تختزل مكنونات النفس تجاه المودَّع، يغلب فيها الحزن وإن تفاوتت درجاته، وهي اللحظات التي تكشف الغطاء عن مشاعرنا الحقيقية، فلا مكان للمداراة، ولا حاجة للكتمان، لذا تفضحنا دموعنا، وتخنقنا العبرات.
نبشت في ذكرياتي بحثاً عن رحلات الوداع التي عايشتها وتفاعلت معها، فطفت تلك التي كانت محفورة، ولا أعرف سبب ثباتها دون غيرها.
أولها وأنا في سن الخامسة، حين أُدخلت إلى المستشفى لإجراء عملية في اليوم التالي، فقد سلمني والدي للممرضة وهم بالخروج، فما كان مني إلا أن أقطع الممرات مطلقاً العنان لساقيَّ لبذل أقصى ما عندهما، حتى تشبثت به، عندها التفت واحتضنني بكل حنان، وأعادني إليها، فأمسكت بي جيداً، بل أنها شلت حركتي نهائياً، أحسست حينها بلوعة الفراق، وهو يتوارى عن انظاري، لذا استوحشت المكان ومن فيه، فكانت أول دمعة وداع خرجت من عينيَّ.
وبعد سنين، عشت لحظة وداعٍ يومية، كانت في حافلة المدرسة ونحن عائدون إلى المنزل، ومع صديق مقرب كنت أتبادل معه الود، فلم أرغب فراقه ولو لساعات، تتجلى تلك اللحظة عند النزول من الحافلة، وتلويحاته لي، بينما كانت الحافلة تغيب مبتعدة، فرغم تكرارها إلا أنها من أروع ما أتذكر من لحظات، كونها لحظة صادقة في خضم طفولة بريئة.
ثم منظر نساء الحي وقد تجمعن لتوديع والدتي عند انتقالنا إلى المنزل الجديد، فلما رأيت البكاء والنحيب، ظننت أن حينا سيكون في أقاصي البلاد، والمفارقة أنه لا يبعد إلا ثلاثة شوارع من منزلنا القديم، ولكنه الشعور الصادق في زمن الحب الحقيقي، الذي جعل البعد ولو لمسافة بسيطة هماً وحزناً على قلوبهن.
وفي نفس الزمن، منظر آخر فرض نفسه، وهو تجمع أهل الحي كبيرهم وصغيرهم، رجالاً ونساءاً في بيت أحد الجيران، لا لشيء إلا لتوديعه قبل سفره لأداء فريضة الحج، وكأن للوداع معناً آخر غير الذي نعهده في وقتنا الحاضر، الحزن ولوعة الفراق تؤكدهما تلك اللحظة الختامية عند التوديع، والملفت هو تبادل المشاعر الصادقة بين الجميع، متناسين الخلافات والمشاحنات.
وفي المقابل، حين عصرت عصارة مخي لاستخرج بعض الأصدقاء الذين انسحبوا من حياتي بلا مبرر، لم يستجب لي إطلاقاً، فلا أذكر أسماءهم فضلاً عن سيرتهم، فهي لحظات منسية بالنسبة لي، لأن أصحابها اختاروا الرحيل دون إبداء الأسباب، إما لأنهم ولوا وجوههم نحو صداقاتٍ أكثر جدوى، أو لأنهم لم يجدوا نفعاً من صداقتهم لي، وفي كلتا الحالتين ندمت على ساعاتي الضائعة مع تلك الوجوه، موقناً بأن فراقهم كان نعمة، كي لا أطيل المكوث في دوامة خداعهم، ولكي لا انغمس في كذبة صداقتهم الزائفة.
دارت عجلة الأيام، وكثرت لحظات وداع الأحباب، تلك اللحظة التي يختفي صاحبها عن الأنظار، حاملاً روحاً أحببناه، ووجها ألفناه، وصوتاً حفظناه، تاركاً ذكريات ومواقف تبادلناها سوياً، فيظل طيفه يسكن الأماكن، وسيرته تلطف المجالس.
أطل علي منظر وداعٍ من نوعٍ أكثر حزناً وأسى، عندما غادر أحدهم رغماً عني وعنه، بلا ميعاد ودون توديع، فجسده حاضر أمامي، أما روحه فقد سُلمت لباريها، ومراسم الوداع هنا قاسية، فيظل جسده أمامك من غسلٍ فصلاةٍ، ثم موكبٍ جنائزيٍ حتى نصل به إلى مثواه الأخير، بأيدينا نفعل كل ذلك بمن نحب، وبأيدينا نهل عليه التراب.
تلك الرحلة التي ينتقل صاحبها إلى حياة البرزخ، وينتقل مودعوه المحبون إلى الحزن والأسى، فيتذكرون كل لحظة عاشوها سوياً، فاقدين الأمل في تكرارها، فتذرف الأعين ماءها بكل ما للحسرة من معنى.
وهي الرحلة التي تولد لدينا حب الراحل ونسيان مساوئه أو تناسيها، عندما يموت الجسد وتحيا الذكريات، ولأننا أيقنا استحالة عودته لنعاتبه أو لنحاسبه، فتبقى من قصصه أحسنها، ومن أحاديثه ألطفها، ومن صوره أجملها.
أيقنت وآمنت بأني سأخوض رحلة الوداع الأخيرة، حين أودع الحياة جسدياً، فتبقى مني الذكريات، وانتقل روحاً إلى حياة البرزخ، ثم روحاً وجسداً إلى دار الحساب، ولأنني قرأت وسمعت الكثير عنها، فإن معالمها وأسرارها تبدو واضحة بالنسبة لي، فما هي إلا محصلة لما اقترفت يداي في هذه الحياة، مغلفةً برحمة الله التي وسعت كل شيء.
ولأن هواجسنا لا تكون إلا في المجهول، فقد كان هاجسي أن تغيب ذكرياتي مع بقائي ضمن الأحياء، فأُصبح جسداً بلا روح، إذ إن سرعة الأيام أو تسارعها تجعل أحداثها مزدحمة، فتسقط ذكرياتنا الواحدة تلو الأخرى، وتقدم العمر كفيلٌ في تأكيد مسحها، حتى نعيش في محيطٍ غريب، تكثر فيه قصص الخيال، وتختلط الأحداث، وتتشابك الأسماء.
أهذا نذير شؤم؟!، بأن ترحل ذكرياتنا بلا توديع، فنبقى جسداً يتحرك بلا عقل يستوعب، فيظن أحبابنا أننا لازلنا باقون، لأنهم يروننا نأكل ونشرب، بل نبتسم ونضحك في بعض الأحيان، والحقيقة أن موتنا سيكون يوم تُدفن ذكرياتنا وتُحذف ذاكرتنا.
(دمتم ودامت ذكرياتكم)
مااجمل كلامك على الرغم من مرارته فقد عشت معه بكل مشاعري وتذكرت احداثاً كثيرة من حالات الوداع والفراق فارحم يارب من مات ووفق من رحل بلا وداع وكلل مساعي من عندما اجبر على الرحيل لأي ظرف كان بالنجاح.
آه ياأخي العزيز من الوداع وقسوته فهو لايرحم
سلمت يداك فأنت من احببني في القراءة بكتاباتك المميزة
نعم كلامك حزين ومؤثر ولكنها الحقيقة التي لا ندركها إلا بعد فوات الأوان .. أو لأننا لا نريد تصديقها قبل وقوعها .. أصعب ما في الحياة هي الذكريات التي تستجلب علينا الحزن والألم في مرة كل نستعيدها .. أدعو الله أن يصبر فؤاد كل من فقد عزيزا وأن ينزل عليه رحمات تمسح حزنه .. ، دمت مبدعا أخي العزيز ..
الوداع لغه لا يُجيد الجميع إستيعابها فهي لا تستفز سوى القلوب الصادقه التي تحمل معاني نادرة الوجود وبالأخص في زمننا هذا .. الوداع بالنسبه لهم ليس فراق جسد وعناق وانتهى . بل هو إستمرار لـ مشاعر نبيله و نوايا صادقه و وفاء لامحدود ومحبة لا يشوبها ولا يعكر صفوها شيء فهي خالصه ولم تبنى على مصالح
أعتبر أن قوة الذاكره تسبب لي الشقاء (الحمدلله على هذه النعمه) فأنا اعاني منها وبشده فهي تذكرني بكل مايمر بي وبالاخص آلامي وبإدق التفاصيل وكأنها لاتريد مني أن أتناساهم لـ بِضع لحظات كي آخذ قسطاً من الراحه مع العلم أني لن أنساهم
يحضرني موقف عشته منذ 5 سنوات حين ذهبت لـ زيارة صديقه كنت أحسبها أخت لي فإذا بي أتفاجأ بأنها رحلت (كانت تعاني من مشكله قلبيه) دون إذن ومن غير أن أودعها ومن دون سآبق إنذار .. خذلتني دموعي فلم اجدها فقد توارت بعيدا عني و فقدت السيطره على توازني وأصبت بدوار وفجأه لم أجد نفسي إلا فالمستشفى وحمدت الله أني لم أشهد توديعها بالرغم اني لو لم أكن فالمستشفى لأنبني ضميري
وكما إختطف ذاك المرض الخبيث الذي لم اجد له مسمى يليق به أكثر الناس محبه على قلبي و تذوقت مرارة فراق من احببت حضوره وتجرعت أصناف الوجع لـ فقدهم وكم تمنيت اني لم احفظ لهم ذكرى جميله فذكراهم باتت تؤرقني وتنهك جسدي النحيل لأرتمي بين أحضان اوراقي أدون مايجول بخاطري وتختلط الحروف وتضيع مشاعري بين حنايا الورقة بسبب دموعي التي تكاد لا تقف وهي تنهمر بغزاره ومن ثم أتنفس الصعداء بعدها وينتهي بي الأمر أن أغير ما أنا عليه بفصل الواقع عن الماضي لأعود له من جديد إن تذكرت شخصاً فقدته ..!!
أظلمت الدنيا في أعين قلوبنا وضاق الوجود بنا مع اننا نعلم جيداً أنهم لن يعودوا يوماً لذلك أحاول أن أضيء النور مرة أخرى لحياتي ولكن بدون ذكريات مؤلمة حد الوجع فـ عجلة الوداع ستدورعلى الجميع فأتمنى أن يُحسن من يعرفني وداعي وان لايذكروني بسوء إن لم يستطيعوا ذكر حسناتي وليتغاضوا عن سيئاتي
أستاذ إسحاق .. هذا المقال من اجمل ما قرأت وأعذرني على الإطاله فلا أُجيد كبح جماح قلمي في مُدونتك الرآقيه .. دُمت كما تُحب
الرحيل بمداد قلمك يقطر حزنا ولوعة .. ربما لأنه الحقيقة الوحيدة المرة في حياتنا والتي لا نريد تصديقها إلا عندما تقع ويصبح كل شئ ذكرى تستجلب علينا الأحزان والآلام ..،لا شك أن كل منا قد عانى لحظات رحيل قاسية إما بالموت أو الإبتعاد أو الهجران أو السفر أو المرض … إلخ وما زالت تلك اللحظات محفورة في وجدانه لا تمحى وإن كان أصعبها هو الموت .. وقد عانيتها شخصيا ففي ست سنوات فقط فقدت أربع من أحبابي أحزان تلو أحزان .. ومرارة تلو المرارة ..لولا رحمة ربي لكنا من القانطين .. ، دمت مبدعا أخي العزيز
اقسم بالله مبدع يااستاذ اسحاق. مدونتكك. وانا اقراها احس بكل كلمه فيها وقت الطفوله وقت يروحون الاهل وخصوصا امي وتتركني وبعدها المدرسه وصديقاتي وبعدها اشد لحظات عمري. اسى. وهي توديع اعز مخلوقه على قلبي اختي طفله ماتت وبين ايدينا الحين الحين حسستني بكل لحظه وثانيه مرت علي فيها رريحتها شعرها جسمها ااحساسي وقت اضمها على صدري ماكان ودي احد ياخذها مني ودي وقتها تلتصق فيني وتصير مني وفيني. كلها جسمها وروحها. مبدع اجدت تصوير مواقف الوداع. يارب لا تفجعني بوداع احدهم. متميز جدا ااسلوبكك اكثر من روعه. في االكتابه ….
جميلة وحزينة جدا
لاشيء محزن بقدر الفراق خاصة فراق الموت
الحياة قصيرة والتوديع مستمر والمه كذلك، وكما نفقد اشخاص وذكريات فاننا بالمقابل نكسب اشخاص وذكريات جديده.
سلم قلمك استاذ
الفراق صعب لدرجة. ما نتخيلها لا يسعني القول الا الله يرحمك يا ابوي واخوي.
اصعب فراق فراقي لابي واخي.
رحلة من رحلوا ،، لقد اصطحبتنا في رحله حزينه حقاً اخي الكاتب ،، صحيح انها ذكرياتك ولكن عشناها وكأننا كُنا معك . كم هو رائع ان تشارك الاخرين ذكرياتك ولاسيما انها حزينه للغايه ،، اشكرك حقاً على مشاركتك لنا لذكرياتك الحزينه،،
انها لحظات مؤلمه جداً ..
حقاً قلمك يستحق التقدير والتشجيع..
دُمت مميز في كلماتك ومقالاتك الابداعيه..
كلام جميل حزين فالذكريات المحزنه تطبع بالذاكره لايمكن نسيانها حتى مع التقدم بالعمر عسى الله ان يوفق من رحلوا بغير وداع ويرحم موتانا وموتى المسلمين
وفقك الله واسعدك بالدنيا والاخره
الوداع أصعب لحظة بين شخصين جمعتهما الصداقة أو الحب أو الإخوة ، ولكنها تكشف عن قيمة الشخص الذي تودعه ، على الرغم من مرارة الوداع إلا أنها لها فائدة قيمة ،، فعند الوفاة تتذكر مصيرك ، أو عن وداعه لسفر أو انتقال أو مهما كان ،، فما أحلى اللقاء بعد فترة من الوقت ،، أوتتعرف إلى أصدقاء جدد ، فتسعد بهم ، وما الحياة إلا ذكريات وأماني . فلا تنظروا إلى الجانب السلبي من الوداع ’’ أشكرك على مقالتك الرائعة
قلم رائع
كل الشكر لك
عاشر من تعاشر فلابد من الفراق،،هذا حال الدنيا يا أستاذي الفاضل،،
متألق ، مبدع ، تلامس احاسيسنا بِمقالك
فالك التوفيق
أبدعت و ابدع قلمك لقد أيقظت فينا ذكرياتاً مدفونة و لا شك ان الحياة مليئة بالرحلات المؤلمة و المفرحة ولكن تبقى اصعب لحظات الوداع هي لأشخاص يرحلون فجأة بلا وداع و لا موعد وتبقى ذكراهم راسخة في الذاكرة رغم رحيلهم المؤلم و في النهاية الحياة مجرد رحلة و كلنا راحلون منها يوم ما و السعيد من ترك الأثر الجميل وتهيا جيداً لما بعد الموت
قلمك رائع وفيه الكثير من الإحساس أكمل لا فض فوك فنحن نحتاج لقلمك
مدوناتك يا بؤ محمد تضحكنا وتبيكينا. لأن كتاباتك تؤثر فينا ونتعايش معها. ؤاتمنى أن نرى هذه اللحظات الجميلة في معانيها والمؤلمة في نفس الوقت في زمنا الحالي. وطبعا أحلى وداع لي كان وداع المعتمرين والحجاج . فكانت تبدأ رحلة الانتظار لعودتهم منذ خروجهم من باب البيت وطبعا كنا ننتظر رجوعهم بالهدايا البسيطة التي كانت تفرحنا
من أجمل ما قرأت يا بومحمد
آحس أخي في كتاباتك ونّة قلم ! خذاه الحزن لماضي مؤلم وجروح آيقظتك لإعادة شريط ذكرياتك للذين رحلوا عنك ورحلت عنهم خارج إرادتك ! كأنك تحكي بقلمك واقع الكثير منا وتجبرنا ان نتذكر ماضي مرير نحاول أن ننساهـ مهما عطانا الله من قوه في الذاكرهـ .. رحلوا عنا ورحلنا عنهم فمن يحس بقلوبنا ويرحم مدامعنا غير آنفسنا … أبدع قلمك ..
” رحلات الوداع هي العالقة دون الأخريات، كونها لحظات تختزل مكنونات النفس تجاه المودَّع، يغلب فيها الحزن وإن تفاوتت درجاته، وهي اللحظات التي تكشف الغطاء عن مشاعرنا الحقيقية، فلا مكان للمداراة، ولا حاجة للكتمان، لذا تفضحنا دموعنا، وتخنقنا العبرات ”
خنقتني العبره مب عارفه شقول ولااخلي كم من لحظات مرن علي في شريط الذاكره واما ابي ااكثر الله يعطيك العافيه دايم متميز اخوي والله يسامحك قلبت المواجع
تسلم يدك على ما كتبت نعم هو حالنا
الحياه تستمر ونعيش الذكريات وتمر علينا اللحظات الحلوه والمره تذهب اللحظات الحلوه وتبقى اللحظات المره راسخه في ذكراكرتنا كلما اغمضنا اعيننا تهيئت لنا كم نحنوا نعشق الذكريات المره وكلما ذكرناها دمعت اعيننا
اذكر وفاة اخي وكيف بقيت الى بعد الدفان وانا انتظر اي واحد من اخوتي ليخبرني انه بالمستشفى ولم يمت ليس ضعف ايمان مني ولكن لامتيه بقلبي ان ارى اخي مزيداً من الوقت فهو اخي وابني في نفس الوقت
نحمد الله على كل حال هكذا هي الحياه اليوم هم وغداً نحن
اللهم نسالك حسن الخاتمة
ننتظر جديدك
نوعيه نادره من الأدباء المتميزين فإلي الأمام وفقكم الله