في مرحلة العنفوان نميل ونندفع لتكوين العلاقات، والتعرف على أشخاص جدد، ونظل نملأ خانة الصداقة بالكثير ممن مروا بحياتنا أو مررنا بتفاصيلهم التي جعلتنا نتمسك بهم كأشخاص لهم أهميتهم في حياتنا، إلى أن أُحطنا بجدارٍ من الارتباطات والالتزامات نحوهم، من ضرورة معرفة اخبارهم والسؤال عن جديدهم، والتعاطف مع أحزانهم والبهجة بأفراحهم.
كلها سلاسل تجرنا وتقيدنا من أجل علاقة صداقة مثالية، وتضعنا في محور يصعب الخروج منه، فأنت الملام والمقصر إن فوت واجباً من واجبات الصداقة، لذلك نلتزم بها راجين نيل منزلة الصديق الصدوق المخلص والمضحي، وقد نتجاوز الحد الطبيعي من إعطاء الصداقة مكانتها الى تهميش حقوق الاسرة والتزاماتها.
وهو الجدار نفسه الذي يمنحنا شيئاً من الطمأنينة والراحة النفسية، فأنت محاط بأشخاص يهمهم أمرك، وأنت محل تقديرٍ بالنسبة لهم، يُسأل عن غيابك، ويُرحب بحضورك، ويُستأنس بحديثك، وتستفيد بآرائهم المطروحة، وتألف مجالستهم، فأنت في حاضنةٍ اجتماعية يحتاجها كل إنسان بالفطرة.
وهو السر في احساسنا بالأمان الداخلي الذي يمكننا من ممارسة طقوسنا اليومية دون رهبة من الاختلاط بالأشخاص، والتعامل مع الغرباء اذا اقتضت الحاجة، والذي قد يفتقده الكثير ممن ترهبهم التجمعات وتزعجهم التدخلات في شؤنهم اليومية، ويربكهم الحديث مع من يلتقونهم لأول مرة، وقد تزول تلك الأعراض مع مرور السنين وزيادة مخالطة الأشخاص.
والنفس البشرية تحتاج في بعض الأحيان شيئاً من العزلة عن محيطها والانكماش على النفس، فكلما تقدمنا في العمر زاد حملنا من المسؤولية والالتزام، وكلها ضغوط تؤثر على صحتنا ونفسيتنا، وللنفس لياقةٌ كلياقة البدن، تتصاعد وتزداد مع التجارب والخبرات إلا أنها تحتاج إلى محطاتٍ للراحة والاسترخاء تمكنها من المحافظة على لياقتها النفسية في مستوى يسمح لها بالاستمرار بنفس الوتيرة.
وقبل الولوج الى هذه المحطة عليك إعطاء كُلِّ ذي حقٍ حقه، سواءاً حقوق الأسرة والوالدين، وحقوق الأرحام والأصدقاء، ومسؤوليات العمل وواجباته، بعدها عليك مراعاة حقوق نفسك، فلنفسك عليك حق، وحقها ان تهديها تلك المحطة.
محطةٌ تصحب فيها نفسك إلى عالمك الخاص، لا التزامات لا ضغوط ولا تدخلات، تمارس فيها ما تحب أن تمارسه من هواياتك المحببة، وتتلذذ بما تحب من الطعام، وتقض وقتاً مستمتعاً بجمال الطبيعة ومستنشقا هواءاً نقياً وصافياً، تبعد فيها عن ما يعكر صفو مزاجك، وتنفض الغبار عن شوائب قلبك ومخيلتك، وتركن كل خيباتك وآلامك جانباً.
في تلك اللحظة أغمض عينيك وكأنك فوق غيمة ماطرة، واستحضر لحظاتك الآسرة منذ طفولتك، وكأنك تلامس النجوم وانت في احضان أمك، وكأنك تلهو وتلعب وتتعب لترتاح وتعود الى لعبك المعتاد بلا منغصات ولا هموم، وعد إلى عنفوان شبابك وكأنك تعشق القمر، وكأن القمر لا يرى سواك، واستذكر قصائدك وأشعارك التي كنت ترددها، واستخرج رسائلك المخبأة في ثنايا نفسك.
وقبل أن تغادر المحطة ناظر مستقبلك الجميل وانت على يقين بأنك تمضي الى غدٍ أفضل وأجمل وأروع، ارسم طريق السعادة، وأعد حساباتك بواقعية وحسب معطيات حياتك، وأعلم أنك في استراحة محاربٍ في الحياة لا هاربٍ منها، وفي انتظارك واجباتٌ والتزاماتٌ لن يقوم بها غيرك.
وتأكد بأن الوجوه التي غادرتها من أجل هذه اللحظة هي في شوقٍ إلى عودتك، ولا تقوى بعدك وفراقك، وانت الأهم بالنسبة لهم، وأَعلمُ انك تبادلهم نفس المشاعر والاحاسيس، وأن الاشتياق قد توغل إلى داخلك، فهم الأحباب وقرة العين، وهم سر السعادة وبهجة الحياة.
وكأني بك تهرول مسرعاً إلى حيث منه جئت، الى مسكّن النفس والروح، الى الأنس والاستئناس، إلى منبع الحب والاخلاص، الى أولئك المشتاقين والمتشوقين لرؤيتك، بعدما جددتَ النفس ونقيتها وصفيتَ البال وأرحته، وعدت بكامل حبك وعنفوانك لممارسة حياتك والإيفاء بواجباتك والتزاماتك.
ودام عنفوان حياتكم بعيداً عن ما يعكرها …
كلام. رائع. يستحق النشر
كلمات رائعة وجميلة ..
لا اجمل من العزلة حينما تتكاثر المتاعب وتكون من اليأس أمم ..
شكرا لاحرفك الرائعة ، تمنياتي لك بالتوفيق ..