دمعة ناي !!


في ليلةٍ شتويةٍ عمياء، تواريت عن من كنت بصحبتهم في ظلامٍ مظلم، مبتعداً عن ضجة الحديث وتعالي الضحكات، ليتلقفني سحرُ صوت نايٍ آتٍ من بعيد، جاءني عذباً رقيقاً، لذا جذبني إلى حيث هو.

جئته متلهفاً وجعلته في مرمى بصري وسمعي، فإذا به أحد العمال وقد فرغ من عمله المعتاد، ليُفرغ أنينه وحنينه لصديقه الناي، فاستمعت مستمتعاً لانبعاثاته الحزينة، ودون أن انطق كي لا أوقف لحناً لامس لب القلب.

فقد سمعته ينادي ذكرياته السعيدة، ويشكو غربة الحال عن الأحباب، ويرسل أشواقه الصادقة، والتي التقطها استشعار أحاسيسي قبل مسمعي، لذا حلقتُ معه عالياً حين بوحه للناي.

وكأني هو، بكل ما يحمل من آلامٍ وأحلام، وكأني سكنت أنينه وآهاته، فعبق الصدق غطى المكان، لدرجةٍ أصبحت فيها المعطر بعطر أحاسيسه النقية، والمتألم بجروحٍ هي ليست لي.

فكانت لحظة أخوة لاحت بكل معانيها النبيلة، وقد ألبستني شجناً دامعاً نزفه ذلك الناي الحزين، والذي أبدع في رسم صورةٍ انسانيةٍ لإنسان مثلنا، أجبرته مرارة الحياة على تذوق البعد وتحمل قسوته، ودفعت به آلام الفقر إلى تجرع المشقة، في سبيل تخفيف الأوجاع عن كاهل الذين يعيلهم من الجياع.

ولم يعلم صاحب الناي بأنه يلقنني درساً في ترويض أحاسيس الحزن والاكتئاب، إذا ما هبت رياح الحياة العاتية فأجبرتني على امتطاء أهوال ومصاعب لم أعهدها، أو أنها هوت بي إلى مستنقع لم اعتد الغور فيه.

وأول فصول الدرس هو كيفية خلق طوق داخلي يحميني من نفسي أولاً، كي لا أنهار ولا تستسلم إرادتي، ذلك الطوق الإيماني الذي يطفو فوق تيارات الحياة العاتية، ليصل بي إلى بر الأمان والاطمئنان، وبذلك يصبح درعي وحصني الحصين في مجابهة الملمات حين تغزوني والتي قد تزعزع النفس عن مسارها المتزن والطبيعي في تقبل الحياة.

وهذا ما يفسر تلك الابتسامات النقية عند الطبقة الكادحة على الدوام، والتي تنبع عن قناعة داخلية بقليل ما تملك، ويقينٍ أكيد بما قد قسمه الله لهم، عكس حال بعض الأغنياء والمترفين حين يغوصون في أعماق الطمع للبحث عن المزيد، ولكنهم وللأسف يغرقون في همٍ ونكد، كونهم في صراع على الجمع وشراهة في اكتساب المزيد، فدون القنوع بما في ايديهم لن ينالوا سعادة قط.

وثانيها هو الاستفادة من الأدوات البسيطة المتوفرة لدي، لأبني بها باباً يطل على دروب البهجة في الحياة، فاعبر جسر الانفراج والأمل، وأستأنس بسطوع الفرح والسرور، أو أحدث كل ذلك في نفسي رغم قساوة الظروف ومعاناة الجسد، ففرحة الروح كفيلة بتناسي آلام البدن.

فقد يكون مصدر الفرح ابتسامة طفل، أو نجاح عزيز، أو حوار ودي مع قريب، وقد يكون منظر طبيعي أبهج ناظري فسبب انشراحاً في صدري، أو صوتاً عذباً تسرب الى أعماقي ليخرج الفرح الفطري الكامن، مُجرداً من زيف مظاهر الحياة، بل خالصاً نقياً من كل أنواع الزيف.

“ودمتم فرحين وأبعد الله عنكم الحزن”

6 replies to “دمعة ناي !!

  1. مدونه رائعه ممتلئه بالمشاعر الصادقه والأمل موجود مدام الله مع خلقه

  2. البسطاء هم أكثر الناس قدرة علی تجاوز الأحزان ، ولا عجب أننا نتعلم منهم دروسا في التحمل والصبر ، طرح جميل بوركت

  3. ابداع كتابي في تجسيد وتصوير الموقف واختيار الكلمات الناطقه بروعة المشهد ،،، شخص بسيط ، ناي ، شخص متأمل الموقف ؛.. شخص عالمه الفكري واسع وقلبه بالحياة نابض يستدل به في مواقف الحياة وأخذ العبر والموعظه منها. بالتوفيق

أتشرف بتعليقاتكم ومقترحاتكم

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه:
close-alt close collapse comment ellipsis expand gallery heart lock menu next pinned previous reply search share star