لم تعد التوقعات الجوية والتي تنبئ بهطول أمطار محل اهتمام بالنسبة لي، فمنذ سنوات ليست بالقريبة باتت زخات المطر الخفيفة والمتوسطة تمر للتحية سريعاً، وكأنها على موعد غرامي مع مناطق أخرى أكثر جاذبية، عكس الأيام الخوالي والتي كانت تمكث فيها أياماً لتسعدنا، وتنعش قلوبنا، وتنقي هواءنا، بل وتغسل دنيانا من أغبرةٍ تراكمت على المباني وهمومٍ استوطنت في النفوس.

كانت حاجتنا النفسية للمطر واضحة وملحة، تكشفها تلك اللهفة لأية غيمة عابرة، وأي خبر آتٍ يبشرنا بقدومه الميمون، وقد لازمني سؤال منطقي: “ما سبب تلهفنا لتلك الزخات العابرة في زمن الطفولة وأيام البساطة الجميلة؟!، ألأننا ذقنا من رحيق فيضه فأدمنا فرحة استثنائيةً في ظل قدومه!!، أم لأن أدوات الفرح والمرح في ذلك الزمن اقتصرت على فعالياتٍ حركية في أجواءٍ طبيعية، إذ جعل منها المطر أكثر انتعاشاً وأروع استمتاعاً.

ومهما كانت الأسباب إلا أن للمطر ذكريات مميزة في ألبوم العمر، تتزاحم الصور والمشاعر لدرجة أفقد فيها بعض الأحداث، بينما تبقى لذةُ فرحٍ جعلتني طائراً في مهبِ أحاسيسِ لحظة المطر، اللحظة التي كنت فيها المتيم بنقاء الهواء، والمُخدر بجرعة زائدة من روعة المنظر، فتعرت بذلك النفس، وانكشف غرامها وعشقها المباح للحظةٍ عابرة من أيام السنة العجاف.

تلك اللحظة التي تحلو فيها مداعبة الحياة برقصةٍ عفوية، عندما تتمايل النفس فرحاً وانتعاشاً، فتعزف العصافير زغاريدها الرومانسية مستجيبة لبهاء الشجر وقت المطر، ومتناغمةً مع سيمفونية الطبيعة الخلابة، ومدغدعةً لمشاعر كادت أن تفتر لولا متعة لقاءٍ بلا ميعاد، وبعدما جاءت بنسمة هواءٍ عليلة أزاحت علة النفس من ضيقها.

وقد كانت ليالي المطر معتمةً بسبب انقطاع الكهرباء المستمر، بينما كانت السماء تتلألأ بفاصل من البروق، وكأنها ألعابٌ ناريةٌ، أو عرضٌ سينمائي أوجب إطفاء الأنوار كي لا نشتت انبهارنا إلا عن روعة السماء المتلألئة باستمرار، لذا استمر استمتاعنا بجمال الأجواء وعروض السماء المجانية، ولذلك يزداد الشوق لليل المطر كشوقنا لنهاره، فتُختزن صورٌ في الذاكرة يصعب نسيانها، لفرط الجمال فيها، ولعفوية الأحاسيس المنبعثة من النفوس، والمسببة لحالة توهجٍ في الوجوه على شكلِ ابتسامةِ فرحٍ واضحة، واكبت توهج الحياة وابتسامتها في لحظةٍ تجلت فيها الطبيعة بفعل قطرات المطر.

(اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين)