شواطئ الحالمين !


جلستُ على شاطئ بحر الأحلام، أراقبُ مرتاديه، متمعناً في الوجوه التي جاءت هرباً من واقعها المرير، أو تلك التي جاءت بحثاً عن فرصة تذهب بها للأفضل، فبينما جاء بعضهم للاستمتاع والاسترخاء أو لركوب المستحيل، إذ جاء من لا يعرف سبب مجيئه إلى ورطة الأحلام.

رأيتُ ذلك الطفل الذي عكف على بناء منزله الرملي القابل للهدم، وذلك الشاب المغامر الذي صارع الأمواج وارتطاماتها المتكررة بغية الوصول إلى قارب الصيد المتعمق صوب قلب البحر، مروراً بذلك الذي تخطو خطواته بحذر شديد مخافة الوقوع في حفرة المجهول أو تحسباً لغدر البحر وخياناته، وذلك الذي عرف البحر ومخاطره وحفظ منسوبه الملائم للوقوف أو للرجوع متى أراد، وذلك الذي طمسته مياه البحر فلا عاد سباحاً في بحر أحلامه ولا استطاع العودة إلى شاطئ واقعه وحقيقته.

رأيتهم بعين المتأمل حيناً، وبعين المتألم أحياناً، ما دفعني لمناجاة هذا البحر الطاغي قائلاً له: يا بحر الآلام والأوهام، رفقاً ورحمةً بمرتاديك الطامحين، فلمَ قسوتك على هؤلاء؟، بينما رأفتك بأولئك، ولما سمحت لأمواجك كي تطال بيت الطفل فتهدمه؟، وما هي حكمتك في جعل وصول الشاب إلى القارب صعباً ومحفوفاً بالتحدي والمخاطر؟.

يا بحر الأحلام، ويا مقصد الحالمين، أما لنا بجوابٍ كافٍ يشفي صدورنا وينور دروبنا في بحر ظلماتك؟، فكم أسرفت في وعودك المبالغة؟، وكم سرقت من ضحكاتنا البريئة؟، وكم آلمت قلوباً لا تستحق الألم؟، وكم أبكيت أعيناً في لحظة الخذلان؟، لذا لن يلومني لائم إن أسميتك سارق الفرح و زارع الترح.

استفزتهُ نعوتي الأخيرة، فكأني به ينتفض من سكوته المستمر، ليعلن رفضه الواضح لما قُلت ونعت، مخاطباً إياي: يا أيها المتأمل المتألم، أنا الماضي بكل ذكرياته، وأنا الحاضر بكل خيالاته، وأنا المستقبل بكل طموحاته، أنا دافعهم للنجاح، وأنا بصيص الضوء في لياليهم المظلمة، وأنا مُحاورهم المُصغي المُنصت في لحظات الانطواء، وأنا صندوق أسرارهم الُمحكم.

وآفاقي تسع كل أحزان الخافقين، حين أذهب بهم في رحلةٍ إلى أعماقي، فأعطيهم ما فقدوا، وأُشبعهم بما اشتهوا، وأجعلهم أغنى الأغنياء وأثرى الأثرياء، ملوكاً على من شاؤوا، أو أزواجاً لمن تمنوا، فيفعلون ما يودون دون قيودٍ أو عوائقٍ أو منغصات، ودوري في تلك الرحلة تطويع العالم بأسره على أهوائهم وما يتمنون.

فما أنا إلا تصورٌ وتخيلٌ لدروب النجاح والفلاح، ظفر بهما من أخذ بأسبابهما، ولا يد لي في التنفيذ والإنجاز، واللذان يعتمدان على قدرات الشخص وهمته وإمكانياته، فلا تُحملني أخطاء الآخرين، ولا تجعلني شماعة فشلهم.

وأردف قائلاً: وأما بيت الطفل الذي هدمته أمواجي فهو كطبيعة أحلامه البريئة، فقد كان يعلم قبل بناء بيته الرملي أن مصيره الهدم، إما بمياهي الآتية وإما بأقدامٍ غافلة، أو تراه حيناً يصنع سفينته الورقية، مستمتعاً بمشاهدتها تطفو وتبتعد موقناً بأنها لن تعود.

وأما قارب الصيد الذي أغوى ذلك الشاب المغامر، فهو أفضل مثالٍ لمسار الحالمين بالثراء السريع، فإن لم تكن راكباً ذلك القارب الآتي من الشاطئ، فإن لحاقك به في قلب البحر مغامرة محفوفة بالكثير من المخاطر والعقبات، وإن لم تكن تحمل همة وعزيمة ودراسة مستفيضة لما ستقدم عليه، فإن الأمواج العاتية كفيلةٌ بإغراقك أو قذفك إلى حيث جئت.

يا أيها السائل، ما أنا إلا بحرٌ كسائر البحور، وعلى من يرتادني الحذر والانتباه، وتعلم الغور في أعماقي دون فقد طريق العودة إلى شاطئ الواقع، وعليه ايجاد طوق النجاة متى استعصى عليه الغطس، فاستسلامه لدواماتي العاتية كفيلة بمكوثه حيث وصل وانغماسه في عالم الأحلام والأوهام حتى يصبح أسير الخيال والتخيلات، وخط الرجعة هنا صعب ويحتاج إلى الكثير من الوقت والعلاج ليعرف ويستوعب مكان حقيقته وواقعه.

(عذراً عن سوء ظني، فقد أضاع بعض الحالمين شواطئهم)

6 replies to “شواطئ الحالمين !

  1. أمتعتني قراءة مدونتك وخاصة عنوان هذا الإسبوع :شواطئ الحالمين ،تمتلك قلما إنسانيا من الدرجة الأولى ذو روح مختلفة ربما يشابهني في إنسانيته يسافر بي لعالم رحب لا يقتصر على فئه محددة والأهم لا يشبه أحدا من مدعي الكتابة ،ربما الأيام المقبلة ستخبرك عن حلم قادم .بوركت وبورك قلمك أخي في الإنسانية :إسحاق البلوشي.

  2. لكم أثار شجوني هذا المقال .. ما أروع العبارات .. حتى انها لتدفع قارئها لتذكر ما مضى في حياته من ذكريات حزينة كانت ام سعيدة .. وما يحلم بتحقيقه من اهداف في المستقبل … فعلا البحر بهدوئه .. وفي غضبه وصوت امواجه يعني لنا الكثير … اشكرك استاذ اسحاق على هذا الوصف الرائع للبحر وعلاقته بنا.

  3. كـَــلآم جدا جميل عميق الفكر وموافق للواقع. فيه نظرة ثاقبة للكاتب ومعاصرة للواقع.
    موفق يا أبو محمد

  4. كمنظر استطيع ان اقف على شاطيء واستطيع ان اسميه شاطيء الذكريات وارسم بالرمال امنيات وبما انا ارسم اسمع صوت عصفور يحلق في السماء ليكتمل المنظر وعندما يكتمل المنظر تأتي الكلمات الهاربة وبمجمل هذه الكلمات تتكون الامنيات قد تكون امنيات.من قلب حاقد على الحروف التي التقت لتجمع معنى الفراق في هذه اللحظة بالذات اتمنى ان يبتعد العصفور ليستنشق هواء الطيب .قد تكون امنيات مجنونة لكنها وفق منطلق عاطفي .انادي للعصفور افترب لتمتلء طيب وحب .وكثيرة هي الامنيات بعضها لم نجرؤ حتى التفكير فيها وبعضها تخجل من التفكير فيها .لكن هنالك امنيات تكون هي سيدة الموقف تعرف اخي الكريم .اصعب ما يمرعلى الانسان حين يمسك قلمَه فيكتب ليعبـر عن معاناته وقتها سيجد نفسه يدمع ودموعه ممزوجة بحروفه من غير ان يشعر صحيح كل انسان له الحق بأن يعيش حلما في حياته لكن علينا ان ندرك انه ليس كل م نتمناه او نطمح اليه يمكن ان يتحقق ويصبح واقعا
    شكرا جزيلا وتحية صادقة من القلب لهذا الموضوع الاكثر من رائع .اختك ازهار الانصاري

أتشرف بتعليقاتكم ومقترحاتكم

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه:
close-alt close collapse comment ellipsis expand gallery heart lock menu next pinned previous reply search share star