يظلون في عتمة الحياة قسراً، ذنبهم الوحيد أنهم ولدوا وهم فاقدو السمع أو النطق أو البصر، أو لأن حركتهم سقطت فأطرافهم لا تستجيب لأوامر أدمغتهم، أو لأنهم مشوهون خلقياً، وفي كل الحالات فهم لا يستطيعون مجاراتنا محادثةً أو حركةً أو استيعاباً أو حتى شكلاً، وقد تجتمع كلها عند شخص، فيُعامل على أنه كومة لحم فُرضت على الحياة.

لم أعتبرهم كومة لحم، وفي ذات الوقت لم ألتفت إليهم كثيراً، حتى ذلك اليوم الذي شاء الله فيه أن يُبصرني بما أجهل أو أتجاهل من أمرهم، عندما اتصل بي صديقٌ، طالباً مرافقته لزيارة ابن عمه الذي تعرض لحادث منذ سنة ولا يزال في المستشفى، في الطريق حكى لي أسباب الحادث ومسبباته، ذلك الحادث الذي قد يتعرض له أيٌ منا، فيكون مصيره كمصير ابن عم الصديق أو أشد.

ولا أعلم ما الذي دفعني لتقمص دوره، وكأني من تعرض للحادث، وكأننا ذاهبان لزيارتي لا زيارته، لذا انتابتني رهبةٌ من معرفة حالته الأخيرة.

دخلنا عليه تباعاً، شابٌ في العقد الثاني من العمر ممدد على السرير، مددتُ يدي للسلام، لم يستجب، فلم يمد يده ليصافحني، ولكنه اكتفى بابتسامة وبعبارات الترحيب، وفي ثنايا الحديث تبين لي أنه يعاني من شلل كلي، وأن العضو الوحيد الحي في جسمه هو رأسه، ونتيجة لذلك لم تصدر منه أية حركة غير الكلام، وسرد تفاصيل الحادث.

هنا بدأتُ في نفسي بطرح مقارنة بين حالته قبل الحادث وبعده، فمن شابٍ بعنفوانه وقوته وجاذبيته، يرى مستقبله المشرق في انتظاره، إلى مشلول الأطراف والآمال، وإلى رقم بلا قيمة في حياة أسرته ومجتمعه، وإلى شابٍ دفن مستقبله قبل أن يُدفن.

حاصرتني أسئلة كثيرة، عن شعوره وإحساسه، وعن نظرة الناس له بعد الحادث، وعن نظرته للمستقبل، ولأنها أسئلة غير لائقة في هذا المقام، لم أطرحها إلا على نفسي، ولأن حالة التقمص لم تكن حقيقية، صعب علي بلوغ إحساسه وشعوره، واكتفيت بشعور الحزن والأسى على شابٍ في مقتبل العمر، حكم عليه القدر بأن يعيش مشلولاً، فيما تبقى له من رصيد العمر.

خرجتُ من المستشفى حاملاً معي تساؤلاتي الكثيرة، سارحاً في عالمي الافتراضي، باحثاً عمن يوصلني إلى الإحساس والشعور عندما نكون معاقين، عندما يُنظر إلينا بعين الشفقة والرحمة، لا بعين الاحترام والتقدير، وعندما نُركن في الزوايا بلا دور ولا أهمية، وعندما نكون عالة على الأحباب لا سنداً ولا ذخراً لهم.

بعد هذا الموقف بدأت بحثي الدؤوب عنهم في كل الأماكن والمناسبات، وأصبحتُ أطيل النظر إلى تفاصيل تصرفاتهم، لعلي أستخرج منها إجابات أسئلتي الضائعة، ولعلي أعرف شيئاً عن عالمهم الخفي بالنسبة لي.

ساعدتني ذاكرتي على استرجاع بعض صورهم، كصورةِ زميل الدراسة حين يُشبعه المُدرس ضرباً وبصفةٍ يومية، كونه لم يحفظ ما طُلب منه، والحقيقة أن سبب صمته عن التسميع، هو حالة الانطواء المرضية التي لازمته، والتي تجعله حبيس الصمت مع أي محيطٍ إلا أسرته والمقربين منه، وتكرار تلك الصورة لأكثر من سنتين دون إدراك هيئة التدريس لحالته الصحية، رسخت في مخيلتي جهل وتخلف منظومة التعليم لدينا.

وصورة ذلك الطفل المرمي في ساحة البيت، وكأنه يريد مخاطبة أقرانه، ليلعب أو يتبادل الحديث والضحك معهم، هكذا كانت توحي نظراته وتلويحاته، فعندما نضحك يبادلنا الضحك، وعندما نركض تلاحقنا نظراته ولكنها لا تقوى على الإمساك بنا، لأننا تجنبناه غير مدركين لما يختلج في صدره، وحركته المتواصلة لم تفلح في إيصال أية رسالة مفهومة، فكان بعضنا يتفنن في الاستهزاء والنيل منه، والبعض يتعمد اجتنابه والابتعاد عنه.

وصورة ذلك الطفل المقيد بالسلاسل أمام البيت، خوفاً منه أو خوفاً عليه، خوفاً أن يُؤذي أو خوفاً من أن يُؤذى، والغريب بأني لم أسمع أو أرى منه ما يثبت تخوفهم، ولكنه وكأي سجين مقيد كان دأبه التخلص من قيوده، لذا لم يكف عن الصراخ، ومحاولة الهروب إلى حيث لا يدري، فبأي ذنبٍ يُقيد طفلٌ كهذا.

آلمتني تلك الصور حين استحضرتها، لقسوة المحيطين بهم، فبدلاً من مساعدتهم والأخذ بأيديهم، يكونون عاملاً إضافياً لشقائهم وتعاستهم، وسبباً في منعهم من مجرد الإحساس بمن حولهم، فضلاً عن البحث لما يجلب السعادة والطمأنينة لهم.

من شرفة السكن الجامعي، رأيت مجموعة من المكفوفين، وقد جاؤوا لحضور فعالية تخصهم في الجامعة، ولحسن حظي أنهم كانوا يمرون أمام الشرفة يومياً ذاهبين إلى المطعم أو عائدين منه، مرةً سمعتُ تعليقاتهم المضحكة، ومرةً سمعت أغانيهم الرائعة، يمشون في طابور منظم، وأجمل ما فيهم أنهم لا يكترثون لنظرات من حولهم، وهذا ما كان يجعلهم أكثر عفوية وانطلاقاً، ولذا نراهم أكثر فصاحة وأبلغ حديثاً، رأيتُ السعادة تغمرهم والفرحة تلازمهم، ورأيت همماً عالية وطموحاً واضحاً، ولا أبالغ حين أقول بأني لم أر في حياتي مجموعة من الشباب، بهذا الانسجام وبتلك الروح.

وفي أحد المطاعم وبينما أنا في انتظار الوجبة، إذا بطفلٍ يقترب جاراً كرسيه المتحرك، محاولاً لفت انتباهي وإحداث أي حوار، فرغم رعشته المستمرة، وفقده الاتزان والسيطرة، إلا أنه يحمل في ثناياه صفةً فطريةً في البشر، وجرأةً في الإقدام يفتقدها الأصحاء، صافحته ملامساً تلك اليد الضعيفة، وتلك الأصابع المتشابكة، وعانقتْ عيني تلك العين البريئة، الممتلئة بالفطرة والحب.

عندها حاولت مجاراة تلويحاته فلم أفلح واكتفيت بالمتابعة والابتسامة، وقام “النادل” بما لم أستطع، فظلا يتخاطبان بلغة الإشارة التي لا أفهمها، والمفاجأة حين أخرج هاتفه من جيب الكرسي، وبدأ في كتابة بعض عبارات الترحيب، فكلما كتب كلمةً رمانا بنظرةٍ منتظراً ردة الفعل، وكلما أبديت إعجابي بما يكتب، طار فرحاً محدثاً ضحكات مدوية، مصحوبةً برقصة الفوز، وكأنها جائزته المستحقة، ووقود جهده المبذول، فكان ذلك درساً مجانياً لي في كيفية التعامل معهم، ومدى تأثير التشجيع والتحفيز على نفسياتهم.

توالت الصور والمواقف التي جمعتني بتلك الفئة الرائعة، فكانت أكثرها روعة مشاهدتهم على منصات التكريم، خريجين من جامعةٍ أو كلية، أو موظفين استحقوا التميز فالتكريم، وأكثرها قسوة عندما رأيتهم يُمنعون من فعل ما يودون، خوفاً عليهم أو خوفاً من نظرة الناس، غير مدركين للأثر النفسي السلبي لفعلتهم.

تخيلتُ إحساسهم لو أنهم ولدوا في مجتمع يتقبلهم ويُراعي وضعهم، فيعاملون معاملة الأسوياء حينها سيكون دور المجتمع تسهيل الحياة عليهم من خلال توفير وسائل يحتاجونها، تعويضاً للنقص الجسدي عند كلٍ منهم، وتمهيداً لقيامهم بدورهم الطبيعي في مجتمعهم ومحيطهم، مطلقين العنان لعفويتهم البريئة، كاسرين أي قيد يمنعهم من الفرح والمشاركة والتعبير، مؤمنين بالقدر الذي قد يجعل من أي شخصٍ معاقاً مثلهم أو أسوأ.

عندها ستغمرهم أحاسيس البهجة والسرور، والثقة بالنفس، ونسيان كل عراقيل الحياة ومعوقات الجسد، وحب المجتمع والمحيط الإيجابي الذي غمرهم بالمساندة والعون، والذي يدفعهم إلى المكان الطبيعي لأي فرد فيه، حيث العمل من أجل تقديم الأفضل للوطن الغالي.

(ودامت أحاسيسكم مفعمة بالحب والامتنان)