20120613-232651.jpg

ظل “سعيد” يدندن: “احبك موت كلمة مالها تفسير، ولين اليوم ما ادري كيف افسرها”، وهو في طريقه للقاء أصدقائه الثلاثة، فقد تزوج “أحمد” و”عبدالله” ثم تبعهما “ياسر”، فظل هو العازب الوحيد في الشلة، لذلك أخذت الوظيفة جل وقته، ولكونه من المبدعين فقد ساهم في تطوير دائرته.

وصل إلى المطعم أولاً، فجلس على الطاولة المعتادة، وأخذ يطالع في قائمة الطعام، ريثما يتوافد الأصدقاء، وما لبث حتى أقبل أول الواصلين، إنه “ياسر” المعروف بتنظيمه وتوقيته الدقيقان، رحب به وجلسا يتحدثان، وبعد حين وصل الصديقان، فبدأوا طقوس العَشاء المعتادة.

تمحورت أحاديثهم عن التغير الذي طرأ بعد دخولهم القفص الذهبي، واختلفت الآراء بين أحمد وعبدالله، حين أسف أحمد لتركه حرية العزوبية، وإقحامه مسؤوليات الأسرة التي لا تنتهي، ومراقبة زوجته التي نعتها “بالنسرة”.

فيما رأى عبدالله أن الطريقة المثلى للتعامل مع تسلط الزوجة وجبروتها، هي فرض شخصيته من الوهلة الأولى، مستعيناً بمبدأ”خير وسيلة للدفاع هو الهجوم”، ضارباً أمثلة متعددة في سيطرته على الوضع، وخنوع زوجته بلا نقاش.

بينما ظل ياسر في صمته المعهود، لم يبين للأصدقاء رأياً أو تحليلاً لحاله بعد الزواج، فدام يبتسم للإثنين وهما يتحدثان عن تجربتهما.

ولأن سعيد كان أكثرهم شغفاً، فقد مر عليه الوقت سريعاً كالبرق، فكم كان ينتظر هذه اللحظة، بعدما أصبح وحيداً بعد زواجهم وانشغالهم بالبيت والزوجة.

بعد تناول العشاء، استأذن ياسر مباشرةً وانصرف، وبعد برهة توافدت المكالمات المنزلية على أحمد وعبدالله، فظلا يتفننان في “تطنيشها”، حتى انقضت ساعة، عندها أدركا الوضع فرد كلٌ على مكالمته، وبعيداً عن المسامع.

والمفاجأة أنهما أنهيا المراسم بلا مقدمات، وكأنهما تلقيا النداء الأخير، فانطلقا مسرعين، وبدى الاستغراب على سعيد، لأنه لم يستطع فك طلاسمهم الغريبة والعجيبة.

استوحش سعيد حاله وهو عائد إلى المنزل، وتمنى وجود شخص يؤنس وحشته ويسد حاجاته، ممهداً الطريق أمام فكرة الزواج للولوج بباله، بعد أن كان سداً منيعاً أمامها، وأمام كل محاولات والديه.

كانت أسباب الامتناع كثيرة، منها عدم جاهزيته لتكوين أسرة، وتحمل مسؤولية الزوجة، أما السبب الأهم، فهو خوفه من فشل التجربة، لما سمعه من قصص الطلاق التي انتشرت وطفت، وبنسب ليست مقبولة على الإطلاق.

فكونه ناجح في دراسته سابقاً، وعمله حالياً، لم يشأ إلا أن ينجح في كل التجارب التي سيمر عليها، لذا كان يطيل دراسة أي مشروع جديد، ويبحث كل الجوانب، ويحلل كل المعوقات، حتى يصل إلى مبتغاه بأقصر الطرق، وبأقل التكاليف والخسائر.

دخل المنزل فإذا بوالديه يشاهدان مسلسلاً تركياً، فسلم وجلس بجوارهما، مستغرباً من إندماجهما الملفت في قصة حب لا تناسبهما إطلاقاً، فقال مازحاً: ما الذي تشاهدانه؟!، هذا لا يناسبكما البتة، وكالعادة وبانسجامٍ تام قابلاه بضحكات مدوية، قال الأب: لازلنا نستأنس بقصص الحب، وجو الحب، فما المانع من ذلك؟!.

قال سعيد: وهل هو سبب انسجامكما؟!، فمنذ خرجت إلي هذه المعمورة، وأنا أراكما ذلك الزوجين المتناغمين، تتخاصمان وتتشاجران بُرهيات من الزمن، ثم تعودان كما كنتما بانسجامكما وضحكاتكما، فما السر في ذلك؟!

قالت الأم : التضحية والتفاهم، قاطعها الأب: بل تحمل المسؤولية والتفاهم، قال سعيد: فأين الحب إذاً؟!.

قالت الأم: الحب وهم قبل الزواج، لأنه عبارة عن وعود من الطرفين، ورسومات خيالية مزينة بكثير من المبالغة، ولكنه بعد الزواج حقيقة ملموسة، لأن برهانه الأكيد هو التضحية وتحمل المسؤولية، واللذان يأتيان بعد الزواج وفي خضم التعايش بين الطرفين.

استطرد الأب: وأما السفينة التي تحمل الحب إلى بر السعادة فهي التفاهم، ولولاه ما حدث ما تراه من انسجام وتناغم واستلطاف.

أصبحت الكلمات الثلاث :”تضحية، مسؤولية، تفاهم” أمام عينيه ليل نهار، فكان يحللها ويفسرها، ولم يستطع فك رموزها، ولكنه تأكد من أنها مفاتيح مهمة للسعادة الزوجية.

وبعد أسبوع قرر لقاء ياسر على حدة، وقد كان، عندها بادره: هل انت سعيد في حياتك الزوجية؟!، جاوبه: في تقديري وتقدير زوجتي نعم، سعيد: إذاً هل لك أن تخبرني بسر خلطتها؟!.

ابتسم ياسر وقال: إنها غالية الثمن، فقد بذلت الكثير من الجهد حتى حصلت عليها، بدايةً من قراءتي لكل كتب السعادة الزوجية، ومشاهدة البرامج الأسرية، وأخيراً جلوسي مع أحمد وعبدالله بعد زواجهما.

وأضاف: جمعت حاجات الزوج في قائمة، ثم حاجات الزوجة في قائمة أخرى، حتى كدتُ أن أكون باحثاً في هذا المجال، ولكني تيقنت أن ما كنت أقرأ وأشاهد ما هي إلا معلومات متكررة، ونظريات مستهلكة، مصادرها كتب مترجمة، تفنن أصحابها في تغليفها بشكل منسق وجميل، وقد أجادوا ترويجها ثم بيعها.

سعيد: وهل استنتجت بعد ذلك بأن السعادة تكمن في التضحية والمسؤولية والتفاهم؟!، ياسر: أعتقد إن حضر التفاهم، سهل إحضار الباقي، فبعد عقد القران، جلستُ مع زوجتي جلسةً مطولةً، نتفاهم في كل صغيرةٍ وكبيرةٍ، وكأنها خارطة طريق لحياتنا الزوجية.

سعيد: وهل وضعتم قوائم التضحية والمسؤولية؟!، ياسر: لم نسمها كذلك، وانما هي واجبات مشتركة، اتفقنا منذ البداية في توزيعها، فبت أعلم ما لي وما علي قبل ليلة الزفاف، وكذلك زوجتي، والأهم أننا اتفقنا على الهدف السامي من هذا الزواج، واتفقنا على أن نبذل الغالي والنفيس من أجل تحقيقه.

أكمل ياسر: ولا اعتقد بأن أحدنا سيتوانا في التضحية أو تحمل المسؤولية، وإلا اعتبر أنانياً فلا يستحق أن يكون طرفاً في هذا الكيان.

سعيد: فهل تنصحني بالزواج؟!، ياسر: نعم، بل احثك عليه، اعقلها وتوكل، ولكن قبل ذلك عليك أن تحسن اختيار الزوجة التي ستنسجم معها، فقد يكون سوء الاختيار، سبباً في عدم الانسجام، مما يؤدي إلى التنافر فالانفصال، أو التضحية والتنازل دون الآخر.

سعيد: استطيع الآن أن أخطو أول خطوة نحو عش الزوجية، فشكراً لك.

(ودمتم متفاهمين)