20120606-234212.jpg

“لقد صدرت الأوامر بتنفيذ حكم الاعدام على السجين رقم 188″، بهذه الكلمات همس مسؤول السجن لأحد زمالائه، فما لبث ذلك الخبر حتى انتشر كالنار في الهشيم، شاقاً طريقه إلى مسمع السجان الذي كان مسؤولاً عن زنزانة المحكوم عليه.

ذلك السجين، الذي كان يكن له الكثير من الاحترام والود، لما اتصف به من خلق سمح، ومواظبةٍ على الصلوات في وقتها، وحفظٍ لكتاب الله أثناء سجنه، وتحفيظه ما يحفظ للمساجين، فكان القرآن الذي في صدره كالعطر الفواح، وقد اشتمه كل من بالمكان، ومع مرور الزمن أصبح السجان تلميذ السجين.

جاء يوم التنفيذ، دخل السجن وإذا به قائم بين يدي ربه يصلي، فانتظره حتى ينهي صلاته، ثم قال له: هل انت جاهز؟، قابله بنظرة المؤمن الموقن وقال:نعم، ولكني سأحملك أمانة لابنتي، قبل ذهابي إلي قدري المحتوم.

السجان: أتمنى أن أوصل أمانتك كما تريد، السجين: هذه رسالة أريدك أن تقرأها عليها، وقد كتبت عنوانها واسمها على الظرف، السجان: أمانتك ستصل إلى ابنتك غداً، وأشهد الله أني سأفعل.

بينما كان يسلم سجينه للجهة المنفذة، كاد الأسى والحسرة أن يعتصرانه، فقد سبقت دموعه كلمات الوداع، فاستدار ومضى مخفياً ما يختلج في صدره، وغاضاً بصره عن موقف لم يكن يتمنى أن يراه، داعياً الله أن يتقبل توبته.

لم يغمض للسجان جفن تلك الليلة، تململ على فراشه، حتى استفاق مسرعاً إلى تلك الرسالة، فهي ما تبقى من أحاسيس وتعابير الصديق، فقد غالبه الشوق لهمساته وكلماته، فقرر قراءتها على نفسه قبل الذهاب بها إلى ابنة صاحب الرسالة.

فطفق يقرأها:

” ابنتي العزيزة وعمر سنيني الهنية …

كانت أمكِ حبيبة العمر، تزوجتُ حسنها وأدبها، وقبل ذلك طيبة قلبها، لذا كنا محل حسد وغيرة من أقراننا وأقربائهم.

أتعلمين كم غمرتني الفرحة في اللحظة التي علمت فيها خبر حملها بكِ، وهل تعلمين بأنني احببتكِ وانتِ في علم الغيب؟!، علمنا فيما بعد بأنكِ بنت، فأصبحتُ أهيم على وجهي في الأسواق، بحثاً عن كل شيء يناسبكِ.

فأنا من اختار ملابسك، ولحافك وفراشك، بل أني سبقت أحداث الزمن حين اخترت ألعابكِ، وكلما رأيت طفلةً أعجبني جمالها، كنت أقول في نفسي ستكونين أجمل منها بكثير.

وفي يوم ميلادكِ، كنت متلهفاً لرؤيتك، وقفتُ مترقباً أمام غرفة الولادة، حتى سمعتك تنادينني بطريقتك الخاصة، تلك الصيحات التي أدخلت السرور والبهجة في فؤادي، حملتكِ وطرت بكِ فرحاً وسروراً، فانتِ من أيقظت الحياة بداخلي.

ألا تذكرين أغنيتي التي كنت أرددها في مسمعك، لقد حفظتها من أجلكِ، أتذكرين أول لوحة رسمتيها؟!، عندما حاولتي رسمي ولكنكِ رسمتي مخلوقاً ليس من كوكبنا، تبسمتُ لكِ حينها وقلت انه يشبهني، كي ازرع فيكِ الثقة، ولكي أرى ابتسامتكِ المعهودة.

كم مرةٍ من المرات فرحتي بهداياي؟!، وكم مرةٍ خيبتُ أملكِ؟!، ولكنكِ كنتِ تبتسمين في كل مرةٍ وتقولين:”شكراً بابا، أنا أحبك بحجم البحر، لا، بل بحجم السماء”، وهل تعلمين كم كانت تفرحني تلك الكلمات؟!.

ها أنا أوصلكِ إلى الروضة، ثم إلى المدرسة، وها انتِ تتخرجين من الجامعة وقد حصلتِ على مرتبة الشرف، عشنا في ذلك اليوم فرحةً لا توصف، اتذكرين تلك الصورة التي جمعتني بكِ بعد حفل التخرج؟!، فقد كنا منسجمين شكلاً وروحاً.

قصتنا كانت جميلة حتى هذه اللحظة، إذ ولج إلى حياتنا ذلك الضيف الثقيل، عدوي وعدوكِ، بل عدو أي إنسان، مفرق الأحباب بلا أسباب، وزارع الفتن.

إنه “الشك” يا ابنتي، لم تعرفيه، بل لم تريه، أنا من رآه، وأعترف لكِ بأن أفعالي هي التي فتحت الباب لدخوله حياتنا، وتعكيره صفو ودنا، وتشتيته شمل أسرتنا.

نعم، أعترف، لقد أغواني إبليس، وسرت في طريق مظلم كسواد الليل، شاهدت ما لا ينبغي أن أشاهده، وكررت تلك الأفعال بشكل يومي، واعتدت أن أرى في كل مرةٍ وجوهاً جديدة تفعل ما لا يُرضي ربها، حتى ظننت أن كل البشر مثلهم يمشون في الوحل.

قضى سوء ظني على علاقتي مع كل من هم في محيطي، كنت أشك في زملاء العمل وأنهم يكيدون لي، لذا ابتعدت عنهم، وظننتُ في إخوتي وأخواتي ولهذا السبب هجرتهم.

وصل بي المطاف عند أمكِ، ولأنني أحببتها، فقد كنت أغار عليها من نظرة عينيها، ومن نسمة الهواء، ولكن ما لبثت تلك الغيرة حتى أصبحت شكاً مقيتاً، لذا كنت أشك بكل شيء صادر منها، وأقارنها بتلك التي أشاهدها عند أؤلئك السوداويين، فكانت حياتنا لا تطاق، لدرجة أني في كل لحظة كنت أشك مئات المرات، أفتش هاتفها، وأراقب طلعاتها خارج المنزل، بينما يبدأ ذهني في تأليف قصص الخيانة الخرافية.

لم أعلم بأني مريض نفسياً، وأن ما ينتابني من شكٍ وظنٍ ما هو إلا أعراض المرض، فكانت النتيجة أن سيطر على كل أفعالي ورداتها، حتى دخلت زنزانته، وكنت أسيره، الذي لا حول له ولا قوة، فأصبح الشك يعشش في داخلي، وفي كل جوارحي.

من جهة أخري فقد قاومته وأبعدته عنكِ، إلا انتِ، إلا زهرة فؤادي، وأنس حياتي، ولتعلمي أنه حاول مراراً وتكراراً، بأن لمح لطلعاتكِ، ومكالماتكِ، وغيابكِ عن المنزل أثناء ذهابكِ للعمل، وفي كل مرة كنت أسكته وألجم فاه.

إلا في ذلك اليوم الأسود، وأنا عائد من السوق فجأة، وهو يحكي لي قصصه النتنة، خيانة الزوجات والبنات، شبه لي المجتمع وكأن أفراده متمرسين على الخيانة.

وصلت البيت وتفاجأت بشاب، وهو يسلمكِ رسالة ثم ينطلق، هنا ناجاني قبل أن أنزل: هذه هي ابنتك التي تدعي عفتها وطهرها، هذه التي ستلوث شرفك بفعلتها، قم الآن وتخلص منها، وأرشدني إلى ذلك الملعون وهو السكين، أخرجته من السيارة وركضت إليك وانتِ تلوحين لي بتلك الرسالة.

اقتربت منكِ، واحتضنتكِ، بينما كان السكين يفعل فعلته في أحشائك، اخرجته وغرزته مرات عدة، حتى رأيتكِ جثة هامدة، لقد سلب مني عقلي، فلم أسئلك عن شيء قبل فعلتي.

رأيتكِ غارقةً بدمائك، ولم يحرك ذلك بي ساكناً، أخذتُ الرسالة، لأرى ما كتبه لكِ ذلك الشاب، فإذا بها دعوة زفاف ابن عمكِ، وقد سلمها لك وانت خارجة من المنزل، وما كانت تلويحاتكِ إلا لتبشريني بخبر الزفاف، لقد أعماني شكي عن معرفة ابن أخي، وعن سؤالكِ عن فحوى الرسالة.

عندها فقط، استوعبت المكان والزمان، ولكني لم استوعب ما أقدمت عليه يدي، فيا لهول ما فعلت بك يا ابنتي، ناديتكِ فلم تجيبيني، حاولتُ مراراً وتكراراً، ولم تلتفتي إلي، عندها دخلت في حالة جنون حقيقة.

جلستُ بجانبكِ، وجعلت رأسكِ على فخذي، وأنا أغني لكِ أغنيتنا المعتادة، فهل كنت تسمعينني؟!، كنت على ذلك الحال حتى أغمى علي، ولم استفق إلا وأنا في السجن.

ابنتي، أسأل نفسي آلاف مرات، بأي ذنبٍ قُتلتِ، وبأي ذنبٍ أصبحتُ قاتلكِ، وهل ما فعلته من أجلكِ طوال تلك السنين سيشفع لي.

وللأسف لم أعرف عدوي حق المعرفة، إلا بعد فوات الأوان عندما تقربت من ربي، فكان التخلص منه أسهل ما يكون، بسلاح الإيمان والثقة بالنفس، وحسن الظن بمن هم في محيطي.

ابنتي الحبيبة، هل ستغفرين لي ما فعلته من غير إرادة مني؟!.

فالله أسأل أن يغفر لي، وأن يجمعني بك في جنات الخلد إنه على كل شيء قدير.

(تُقرأ على قبر ابنتي العزيزة التي قتلها الشك)