حياتنا مليئة بصورٍ مختلفة، منها الجميلة والأنيقة، ومنها القبيحة والبشعة، قد نحكم على جمالياتها متسرعين، فتبدي لنا الأيام العكس، ومردها زاوية نظرتنا، وأقصد هنا نظرتنا لشؤون الناس، فهل هم سعداء، أوفياء، وطيبون كما نظن؟!!، أم أنها زاويتنا الخاطئة التي تجعلنا نعتقد ذلك، إما لحسن ظننا المفرط، أو خٍبث المُنْظَّر، أم انبهارنا بألوانٍ معينة وتركيزنا عليها دون الصورةِ الكُلية، ومما لا شك فيه فإن تغير تلك الصور من الحسنة الجميلة الى القبيحة البشعة أو العكس، تولد لدينا ردات فعل متفاوتة، قد تؤثر بالتالي على نظرتنا المستقبلية للأمور أو حكمنا على الناس، فالبعض يفقد الثقة، والبعض يشك في أقرب الناس، والبعض يفضل الانطواء، بينما الأصح أن نعتبر تلك التجارب بأنواعها وأنماطها وتصرفات أصحابها، هي خبرات نكتسبها كلما تقدمت بنا السنين، فهي تنير لنا دروبنا المقبلة، بل تجعلنا أكثر وعياً للحياة والتعامل مع الناس، وتكمن مشكلتنا الأزلية في الأحكام المتسرعة على من حولنا ايجاباً أو سلباً، بينما الحقيقة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فمتى نكون أكثر روِّيةً وتأنياً في اصدار أحكامنا؟!!.
اهدتني عدسة الحياة عدة صور، ناظرتها بزوايا معكوسة، كما حدث ذلك مع غيري، ممن حدثوني عن صورهم المعكوسة، أو التي قرأتها، أو سمعتها من مصادر مختلفة، وسأذكر لكم بعضها:
كان ناظر مدرستي الذي أجله وأقدره، وصيته الحسن على كل لسان، أصبح قدوتي في الحياة، فهو الرجل الصالح، الوفي، الصادق، المخلص لعمله ووطنه، يحترمه التلاميذ وآباءهم، وله مكانة اجتماعية مرموقة فهو المعلم والأب والقدوة، كبرتُ ونظرتي لم تتغير، حتى شاء الله أن يكشف سره، تعاملت معه في مسألة تجارية، فهو تاجر أيضاً، اكتشفت غشه لي ولكل من تعامل معه، بما لا يدع مجالاً للشك، صُدمت عندما تيقنت بأنه من عباد المال، واجهته بحقي الذي سُلب، وبكل البراهين التي لو قيلت لصاحب ضمير حي لاسترد لك حقك مع الاعتذار عن ما بدر، فأخذ الحقوق ظلم، وكما تعلمون فالظلم ظلمات يوم القيامة، وكان الأولى أن يستحضر ذلك، لكنه أنكر، واستكبر، وانكشف على صورته الحقيقية عكس الصورة المقلوبة التي كنت أراها.
يجر عربته، وانظر إليه بنظرة المشفق، فهو معاق، رجلاه لا تقويان على المشي، انه تعيس في حياته، نحس بالتعاسة عندما تتعطل سياراتنا، فما بالكم ان تعطلت أرجلنا، اقتربت منه لتقديم المساعدة، فاذا بي اجد لوحة علقها خلف كرسيه المتحرك مكتوب عليها:(لا تشفق علي فأنا أسعد منك بكثير)، هنا اكتشفت صورة اخرى كانت معكوسة بالنسبة لي، فهو رغم الإعاقة إلا أن همته عالية، لدرجة ثقته في نفسه، فمجرد قدرته على جر كرسيه، كافية لتمكنه من الانتقال والوصول إلى حيث يريد، وعدم الاتكال وطلب المساعدة مادامت ذراعيه تعملان، بعكس كثير من الأصحاء ممن يأملون في تحقيق أحلامهم ولكنهم يفقدون الأمل والثقة لمجرد عثرة بسيطة في حياتهم، والمقام هنا يجبرني على استحضار بعض الأبيات:
بَصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها
* * * * * * * * تُنال إلا على جسر من التعب
ويقول آخر :
ذريني أنـل ما لا يُنـال من العُـلا
* * * * فصعب العلا في الصعب والسهل في السهل
تريدين إدراك المعالي رخيصة
* * * * * * * * ولا بُدَّ دون الشَّهْدِ من إبر النحْلِ
إنه من أغنى الأغنياء فهو تاجر من أصحاب المليارات، محسود على ذلك، لأنه يملك البنايات، ويسكن القصور، ويسافر متى يشاء، يملك ما لا يملكه غيره، يحلم الكثير من الناس مجرد الدخول الى قصره، والتشرف بالسلام عليه، يتمنون اكل ما يأكله من طيب الطعام، ولبس ما يلبسه من أرقى الماركات، والنوم على ما ينام من الفراش، وركوب ما يركبه من أفخر السيارات، كل ما يتمناه يحصل عليه بمجرد الورود إلى ذهنه، فريق من الخدم والحشم تحت امرته، ليجعلوا احلامه سهلة التحقق، أما الزاوية الأخرى لتلك الصورة، فهي أن هذا التاجر مصاب بمرض في جهازه الهضمي لا يستطيع اكل كل ما تشتهيه نفسه وانما ما يسمح له الطبيب، فمعدته لا تقوى الا على القليل من الزاد وهي عبارة عن بضع لقيمات، وإلا أغمى عليه وأدخل المستشفى، وهو كذلك مصاب بالأرق المزمن، فلا يقوى على النوم إلا بأخذ حبوب مساعدة على ذلك، خرج ذات نهار الى حديقة منزله، فرأى المزارع وقد استغرق في نومٍ عميقٍ تحت ظل شجرة، وقف بقربه مدةً طويلةً، بينما المزارع على حالته، فقال لمن حوله : “نملك المال، ونملك الجاه، نشتري افضل الفراش، وما طاب من الطعام، فما بالنا لا نستطيع شراء النوم او الصحة او راحة البال”، هذا التاجر مع ما يملكه، إلا أنه يحسد المزارع البسيط على نعمة من النعم وهي النوم، كما أنه يحسدني ويحسدك على نعمة التلذذ بالطعام، فما فائدة هذه الأموال المتكدسة … ؟!، نعم نحتاج المال وهو ضروري، ولكنه لا يمثل سر السعادة، السعادة هي إحساس داخلي يجعلك تقتنع بما لديك وإن كان قليلاً، وصحة بدنية تجعلك تتلذذ بما وهبك الله من نعم، وراحة نفسية تساعدك على النوم قرير العين.
صديقك في العمل الذي يصارحك بكل شي، يريد مصلحتك، يُناصحك، ويرشدك لتطوير مهاراتك، يحرص على ترقيتك، إنه يحبك بصدق وإخلاص، يسأل عنك إذا تأخرت، وعلى تواصل دائم معك، أصبح جزءاً مهما في حياتك وأصبحت كذلك بالنسبة له، فيا له من صديق وفي، وكم يحلم الآخرون بصديقٍ مثله؟!!، لم تكن علاقتك بإخوانك بتلك المتانة والصدق، ورب أخٍ لم تلده أمك، وللأسف فإن الصورة الحقيقية قمة في القذارة، فهو يخطط للاستيلاء على منصبك، ويشوه صورتك عند المدير، وكل كلمة تقولها يوصلها تقرباً له، لم يحب ولم يخلص لأحد إلا لنفسه، وما تقربه إليك إلا لمعرفة خططك التي يخشاها، فتطورك وتفانيك في العمل يُرعبانه، وهو الذي اقترب من السيطرة على كرسيك، فيؤسفني أن أُبلغك بأن صديقك متسلق على حسابك فلا تحزن على أفعاله القذرة، ولتكن على يقين بأن الكرسي الذي يخطط للاستيلاء عليه، ما هو إلا ككرسي الحلاق، يثبت الكرسي ويتغير الجالسون، فلتكن أخلاقك ثابتة وإن تغير أخلاق من حولك.
شاب مفتول العضلات طويل القامة، يمشي متبختراً، يسكن في عمارة سكنية مع والديه، الكل يهابه، فالشبان يتمنون جسماً متناسقاً كجسمه، ويتوددون له كي يكون عوناً في أي عراك أو صدام، فتدخله حاسم، ينهي أي معركة وإن كانت أسلحتها غير تقليدية، ودائماً ما يكون موضع ترحيب وإعجاب فهو بطل العمارة بلا منازع، انكشفت الصورة عندما انقطع التيار الكهربائي ليلاً، ظل يصرخ في شقته، ظن السكان أن خطباً ما حدث له، هرولوا اليه مسرعين، فإذا به يبكي ويصرخ خوفاً من الظلام، ويسأل عن والديه الذين خرجا ولم يعودا بعد، كان يرتجف خوفاً كالأطفال، فقد كان لا يطفئ الإنارة ليلاً او نهاراً، حالة نفسية تصيبه في الظلام منذ الصغر، ولم يستطع التغلب عليها، فما فائدة عضلاته المفتولة؟!!، فسبحان من وهبه العضلات، وزرع في قلبه خوف الظلام.
سأترك المجال لكم لتروا قصصكم التي شاهدتموها من زوايا معكوسة، كي نستفيد ونأخذ العظة والعبرة.
ودمتم بود
آخر صورة لمفتول العضلات طويل القامة شهدتها في صحتها وشهدتها على سرير طبي لايحرك إلا رأسه وماهي إلا أيام وقد فارق الحياة ،،، سبحان الله كأنه شريط يمر علي
بالفعل زوايا لاتظهرها إلا التجارب أو الإحتكاك ،،،
لدينا قريب بيننا وبينه مصالح تجاريه منها العقاري ومنها مبالغ مقترضه هي بالأصل لنا.
مع مرور الأيام وحصول التقصير من طرفه برر هذا في نهاية المطاف أنه إمتحان لنا ولصبرنا وبالفعل نحن إجتزنا الإمتحان ولكن أبى بعضٌ منا إلا أن يبين له ماتسبب لنا صبرنا في حالنا من تأخر وتشتت.
حاول التعويض ولكن رفضنا للتعويض كان بموجب أنه قد أدى الأمانه.
الزوايا التي صادفتها كانت في بعض من من ألحق به الأذى وإتخذت منه موقفً أن لا أدخل معه بشيء من أمور الحياة.
دمت بود / @1_mn_alnaas
واحد من الناس :
أشكرك على الأمثلة التي ذكرتها … هكذا هي الحياة … دوماً تهدينا صور نكتشف معكوسيتها بعد فوات الأوان …
مقال رائع و واقعي .. لك التحية أخ اسحاق
الوجه الحقيقي :
ولك كل التقدير والامتنان …
اولا اسمحلي ان لا أتطرق لأسلوبك و ابداعك فليس مثلي يستطيع ان يفيك حقك ..
و ثانيا اسمحلي ان اعلق و اطرح وجهة نظري لا من باب الناقد الفاهم ولكن من باب التلميذ المشاغب .. فانت أستاذي
تعلمت من خلال دراستي و قبل تقييمي لأي شي او حكمي عليه بان ارتدي جميع العدسات من كل الزوايا
فعلى سبيل المثال لا استطيع بناء مدرسة في قرية ( وهذا شي عظيم ) .. و اهلها لا يجدون ما ياكلونه .. فلربما المدرسة تكون من خلال عدستي خيرا كبيرا .. و لكن بعدسة اصحاب الشان فهي ليست موجودة في الوقت الراهن .. و هناك زوايا اخرى كثيرة في نفس المثال لا يسع المجال لذكرها .. النقطة هي ان ترى الأشياء من كل الزوايا ثم تحدد موقفك .. و هذا ليس بالأمر السهل .. و هنا تتفاوت القدرات ..
و لكني قبل ذلك
تعلمت من ديني ان لا احكم على الاشيا من النظرة الاولى او من خلال عدسة بيئتي او خبرتي فمهما كانت عدستي واضحة الا انها لا يمكن ان تكون شاملة ..
و لعدم قدرتي على ارتداء جميع العدسات في التعامل مع الناس .. لان لكل انسان عدسته الخاصة و كذلك بيئته و ثقافته و تربيته و قناعته
قررت ان احدد لعدستي بعض المواصفات التي تساعديني على فن التعامل مع الاخرين
فتعلمت ان بعض الظن إثم .. فأحسنت الظن بغيري
و تربيت على ان أختلق الأعذار لغيري
و آمنت ان عيوبي كثيرة .. فشغلتني عن عيوب غيري
( هنا لا ادعي التطبيق .. و لكنها القناعة )
و أخذت بقول سيدنا عمر .. لست بالخب و ليس الخب يخدعني
فلا يغرنك شكل او حسن او غنى او تواضع او كلام او موقف او حتى دين
فكم من شاب تراه كأنه مغني امريكي و تتفاجأ عندما تعلم بان يحفظ من القران اجزاء عديدة و يواظب على السنن في الصلاة و الصيام الخ
و كم من شيخ دين .. علم الدين .. فاستغله في مآرب خاصة .. و الأمثلة كثيرة على ذلك
في النهاية
( أحبب حبيبك هونا ما .. عله يكون عدوك يوما ما .. و ابغض عدوك هونا ما .. عله يكون حبيبك يوما ما )
استمحيك عذرا أستاذي فكلامك و اسلوبك جبرا قلمي المشروخ المتهالك على الكتابة ..
العبد الفقير :
اذهلتني بروعة اسلوبك … استمتعت بقراءة ردك
اشكرك
ابداع متواصل نتمنى لك الخير دائما …
MahoOyAli :
لكِ كل الود … والاحترام … والامتنان ….
على الدعم المتواصل …
الأخلاق والسلوكيات من الممكن ان تتغير او تتبدل مع الوقت او المكان
لعبة الغنى والفقر، او القناعة والطمع
العز في القناعة، والذل في الطمع: ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس فلا يزال عزيزًا بينهم، والطماع يذل نفسه من أجل المزيد
فمن كان غني القلب نعم بالسعادة وتحلى بالرضى، وإن كان لا يجد قوت يومه، ومن كان فقير القلب؛ فإنه لو ملك الأرض ومن عليها إلا درهما واحدا لرأى أن غناه في ذلك الدرهم
فاطمة :
اشكركِ … واتفق معكِ في كل ما ذكرتيه …
كل منا يفسر الحياة ع قدر نظرته وعقله جزيت خيرآ. ودمت ودآم نبض قلمك
آمنة البلوشي :
شكراً … على التفاعل والمشاركة
مقال رائع ياستاذ والزوايا حقيقيه اي وتحصل يوميا في الحياة الطبيعيه
اعجبتني مدونتك كم هو رائع إبداعك دوما الى الامام وننتظر المزيد
شكرا لك أيها الكاتب الرائع فقد تجولت بنا في لحظات قصيرة في زوايا الحياة في تصوير دقيق كأنها حقيقة وهي حقيقة ، قلم مبدع إلى مزيد من التألق
اخي اسحاق
كل ماذكرت من صور قد تحدث لنا ان لم ننتبه و
نفكر ونفهم ماذا يريده منا الاخرون عندما يتوددون لنا
خذ هذا مثال لفتاة غرتها الصداقة
في السنة الاولى لها من
الجامعة تعرفت على
فتاة غنية محبوبة كثيرة العطاء والتفوق وكثيرة الاصحاب وولكنها كانت تقول لها انك اقرب اصحابي الي وكانت تميزها وتفضلها على كثير من اصحابها وتتقرب لها ويالها من فتاة مسكينة لم تعرف ان صاحبتها الغنية كانت تجهزها لتقع وتعترف بقضية لم ترتكبها وتسجن بغير حق وتتوقف نبضات حياتها بعد صدمة افقاتها من غفلة الصداقة المتميزة
من روائع الدكتور مصطفى محمود
* الذي يسكن في أعماق الصحراء يشكو مر الشكوى لأنه لا يجد الماء الصالح للشرب
* وساكن الزمالك الذي يجد الماء والنور والسخان والتكييف والتليفون والتلفزيون لو استمعت إليه لوجدته يشكو مر الشكوى هو الآخر من سوء الهضم والسكر والضغط
* والمليونير ساكن باريس الذي يجد كل ما يحلم به، يشكو الكآبة والخوف من الأماكن المغلقة والوسواس والأرق والقلق
* والذي أعطاه الله الصحة والمال والزوجة الجميلة يشك في زوجته الجميلة ولا يعرف طعم الراحة
* والرجل الناجح المشهور النجم الذي حالفه الحظ في كل شيء وانتصر في كل معركة لم يستطع أن ينتصر على ضعفه وخضوعه للمخدر فأدمن الكوكايين وانتهى إلى الدمار
* والملك الذي يملك الأقدار و المصائر والرقاب تراه عبدا لشهوته وخادما لأطماعه وذليلا لنزواته
* وبطل المصارعة أصابه تضخم في القلب نتيجة تضخم في العضلات
كلنا نخرج من الدنيا بحظوظ متقاربة برغم ما يبدو في الظاهر من بعد الفوارق
وبرغم غنى الأغنياء و فقر الفقراء فمحصولهم النهائي من السعادة و الشقاء الدنيوي متقارب
فالله يأخذ بقدر ما يعطي و يعوض بقدر ما يحرم و ييسر بقدر ما يعسر..
و لو دخل كل منا قلب الآخر لأشفق عليه و لرأى عدل الموازين الباطنية
برغم اختلال الموازين الظاهرية.. و لما شعر بحسد و لا بحقد و لا بزهو و لا بغرور.
إنما هذه القصور و الجواهر و الحلي و اللآلئ مجرد ديكور خارجي من ورق اللعب..
احسنت أخ اسحاق في عرضك لهذه الصور التي نلمسها بشكل يومي ولو كانت مختلفة عما تم عرضه وأظن أن مثل هذه الصور الحياتية المخالفة لتوقعات الناس تجعل بعض الناس ذوي الحساسية العالية يقعون في فخ الشك والارتياب بكل من حولهم
المادة والأمور المادية لا تخدم أي انسان مهما كان إلا إن أحسن في استخدامها ،، ما يهم في هذه الحياة هي الأخلاق الحميدة التي تربينا عليها وتعلم تجارب الحياة لنستطيع القيام بالتصرف المناسب في الوقت المناسب . أشكرك أستاذي على ما طرحته وننتظر المدونة القادمة .