(إفلاس الكرك !!)
كثيراً ما كنت أقوم بالمرور على الساحرة دبي أثناء ذهابي الأسبوعي للعمل من الفجيرة إلى العين، وذلك خلال فترة منتصف التسعينات، إما لزيارة أحد الأقارب في المستشفى، أو لقاء أحد الأصدقاء.
ذات مرة وقفت عند المحطة بمنطقة الممزر للتزود بالوقود، واذا بمنظر غريب يستوقفني، طابور من السيارات الفارهة امام كافتيريا صغيرة جداً، تناقض كبير بين فخامة السيارات وتواضع الكافتيريا والتي بدت قديمة، وما ان انتهيت من تعبئة الوقود، حتى وقفت معهم في طابورهم الفاره، ولكن بسيارتي المتواضعة.
والقصد معرفة ما يدور في هذا المكان، فثمة ريبة، والفضول سيد الموقف، جاء دوري، والمفاجأة أن الخدمة بالإشارات، وإذا به يؤشر علي بعلامة النصر فأكدت له بالموافقة، دون علمي بما تعنيه، لم يتوانى في خدمتي كثيراً، حضر وأحضر معه السر المكنون، (كوبين من الشاي)، فقلت له: شاي بالحليب ؟!!!! قال: لا … (كرك)، أخذت الكوبين، فأدركت حينها بأن الإشارة كانت تلميحاً للعدد.
وهنا بدأت علاقتي ب(الكرك)، رشفت رشفة لأتفحص المكونات وهي عبارة عن : شاي + حليب + خلطة (زعفران وهيل)، انهيت الكوب الاول فالتالي، طعمه مميز، وسعره زهيد(بدرهم)، وسهل التحضير، مجرد غلي الماء ثم اضافة الشاي فالحليب ثم السكر واخيراً الخلطة.
ومع مرور الأيام زاد الحديث عنه، فأصبح حديث الساعة، فلا يكاد يخلوا شارع من مطعم او كافتيريا او محل متخصص في عمل (الكرك)، فالكل يقدمه، ومنظر السيارات المكتظة امام اماكن تقديمه ملفت للنظر.
فمن أراد أن يتحدث عن نبله ورقيه فعليه إثبات شربه، وهو دواءٌ للصداع والضيق، وهو خير جليسٍ في الأسفار، وبه نكرم من معنا في السيارة، يفضل شربه عند الذهاب للعمل وأثناءه وبعده، بل في كل حين.
شربه دليل على قوة شخصيتك ورومانسيتك بل واناقتك، انه من متطلبات العصر فإن لم تشربه فانت منبوذ، فكيف نتخيل إنسان بكامل قواه العقلية والجسدية ولا يشربه، والادهى والأمر حين يتبجح بكرهه، ويبين نواياه الخبيثة بزواله من المجتمع، فكيف لعاقل أن لا يهيم بشربه ( فان لم تحبه فلا تكرهه).
صيغة المبالغة كانت مقصودة فيما سبق، والمعنى أننا روجنا للكرك دون علم، حباً للتقليد او فضولاً، ورأيي الشخصي: ( إن لم تكرهه فلا تحبه لهذه الدرجة، ولا تجعله جزءاً من حياتك اليومية)، ونتيجةً لذلك فكثيراً ما نكون لقمة سائغة لمروجي السلع، من خلال إعلاناتهم الرنانة، وترديدنا لها من حيث ندري او لا ندري، فغايتهم الترويج وبيع منتجاتهم.
وقد اصبحنا استهلاكيين لدرجة ان اي سلعة تافهة وبقليل من الدعاية الذكية والإبهار كفيلةٌ بسحرنا وكأنها سر الحياة، والمرارة ليست في الشراء وشراهته، بل نوع السلع التي نشتريها، فاغلبها كماليات، لا نحتاجها على الاطلاق، ثقافة الاستهلاك حاضرة بقوة، في حين أن ثقافة التوفير تكاد تكون معدومة.
نحن استهلاكيون في كل شي، فكم نصرف شهريا على فواتير الهواتف والإنترنت وعلى الوجبات السريعة، وتحضيرات الأعراس، وما أدراك ما تحضيرات الأعراس، وخاصة عند النساء، من فساتين، وكوافير وحناء، وغيرها من الاكسسوارات التي ابتدعها المبتدعون، وادمنا نحن على شرائها، وقد تفننوا في ابتكار كل جديد يأسر القلوب، ويفرغ الجيوب، وتفننا في شراء كل ما لا نحتاجه، اشباعاً لرغباتنا لا لحاجتنا.
وكذلك الحال عند الرجال، فكم مرة نستبدل هواتفنا والسبب انهم أجادوا الترويج، ولم نفهم لعبتهم، فلو اكتفينا بحاجاتنا الاساسية لما احتجنا الاقتراض من البنوك، والدخول في دوامة الديون، ولوفرنا الكثير من رواتبنا، وحتى حاجاتنا يمكن تقنينها، فعلى سبيل المثال: السيارة حاجة ضرورية، ولكن السؤال : ما هي السيارة المناسبة لي من حيث النوع والمواصفات والتكلفة؟!!، ونلاحظ أن أغلب الشباب في مجتمعنا يملكون سيارات فارهة جداً، فمنظر السيارة جميل ومغري، بينما معاناة صاحبها قاسية جداً، لدرجة لا نتصورها بل لا تخطر لنا، فهو يدفع نصف راتبه او اكثر قسطاً شهرياً.
وللأسف فإن أغلب الشباب ينجرف خلف الدعايات او تقليداً لبعض الشخصيات دون النظر الى امكانياته المحدودة، فيقع في فخ ثقافة الاستهلاك التي لا يستفيد منها إلا جهتين، التاجر صاحب السلعة، والبنك صاحب السيولة.
السلام عليكم اخي الفاضل
مقال جميل جداً بصراحة وأبدعت في استخدام المصطلحات والعبارات. واايد كلامك وبشده بخصوص المجتمع الاستهلاكي ونظرة المجتمع للكماليات.
الله يزيد من أمثالك ويجعل فكر مجتمعاتنه السلبي يندثر على أمثالك الطيبيين.
م. ماجد الزرعوني
اشكرك …
المسؤولية مشتركة … وثقافة الاستهلاك يمكن تقنينها متى ما تعاونا … نحتاج لوعي …
بومحمد مقالاتك جدا جميلة و هادفة و لها متعة في القراءة ومعجب جدا في طرحك للمواضيع التي تهدف الى الرقي .
حفظك الله و في انتظار جديدك
مقال بديع وفكرته ذكية. بورك قلمك
” ثقافة الاستهلاك حاضرة بقوة، في حين أن ثقافة التوفير تكاد تكون معدومة”
جميلة هي كلماتك و فكرك مبدع و الاجمل هي المواضيع التي تتناولها
وفقك الله
مقال ممتاز.بالفعل و هذا ليس واقع مجتمعنا فقط انما العالم الثالث باكمله ولكن بنسب مختلفة و اننا قد نكون في القمة. اصبحنا نتفنن في اقتناء ما لانحتاجه و استخدام التكنلوجيا الحديثة في غير محله ……
مقال جميل سلمت يداك
مقال واقعي مؤلم. ..نحن شعب يعيش على الخيال. وللاسف
مقال جميل 🙂
مقال جميل